الثلاثاء، 2 أغسطس 2011

النظريات والنماذج المفسرة لظاهرة الإدمان على المخدرات. في العوامل السيكولوجية والبيولوجية والاجتماعية-الثقافية المؤدية إلى الإدمان.

إعداد:
-أ/ قجة رضا.أستاذ م م بالدروس علم الاجتماع- المسيلة
-أ/عزوز عبد الناصر.أ م – علم الاجتماع -المسيلة
السنة الجامعية2007/2008

مقدمة:
الإدمان على المخدرات آفة اجتماعية خطيرة رافقت البشرية منذ القدم وتطورت بتطورها، وأصبحت من إحدى المشكلات المعاصرة التي تمثل قمة المعاناة والمأساة التي وصلت إليها المجتمعات الإنسانية، فاجتاحت بلداناً نامية ومتطورة، وانتشرت بين زمر وجماعات متباينة: فقيرة وغنية، ريفية وحضرية، وبين الأفراد: صغاراً وكباراً، ذكوراً وإناثاً، ثم بدأت بالانتقال من إقليم إلى آخر زراعة وتصنيعاً وتعاطياً وإدماناً، وما النداءات العالمية التي تتعالى، والاتفاقيات التي تبرم، والمؤتمرات الدولية التي تعقد، والبحوث والدراسات الاجتماعية التي تجرى بصفة دورية؛ إلا دلائل واضحة على حدة المشكلة وشموليتها. وما يزيد من خطورتها كونها تصيب الفئة الفعالة في المجتمع، وهي فئة الشباب التي تعد أساس الإنتاج وعماد التنمية، هذا ناهيك عن آثارها النفسية والاجتماعية والصحية والاقتصادية السلبية، سواء بالنسبة للمدمن نفسه(الانتحار البطيء)، أو بالنسبة للأسرة أو للمجتمع بشكل عام.
ولا شك أن من يكتب عن الإدمان على المخدرات، سيجد عقله ساحة لنزاع مجموعة من الأفكار والاتجاهات المختلفة، وسيرى أن التمسك بالاتجاه الواحد سيجعل الاقتراب من الواقعية ضربا من اليوتوبيا، لا يتحرر فيها الباحث من رؤية ذات مضمون رومانسي تدفعه إلى تعاطف خفي مع هذا الاتجاه أو ذاك، والسبب هو أن الخصم واحد وأبعاده متعددة، والتعدد الظاهري لتلك الأبعاد، يوازيه تعدد آخر على مستوى التوجه الفكري، ولكن سنقع ضحية التفسير الذري، إذا أكتشف أن ذلك التعدد في الأبعاد كان يخفي ورائه الوحدة والتحالف فيما بينها، وسيترتب على هذا التحالف التداخل النظري والمنهجي بين العلوم، وهذا يبدو جليا أنه بالرغم من التطورات الفكرية واتساع نطاق البحث العلمي، ظلت أبعاد الإدمان معقدة ومتنوعة وهو أعظم تحد يواجهه الفكر الإنساني، فما من نتيجة يتم التوصل إليها وتشكل انجازا هاما لنظرية ما، إلا ونجد ما يفندها أو يصل إلى نتيجة مخالفة أو مناقضة لها.
أن المتأمل لمسيرة الأبحاث والدراسات المتراكمة التي اقتفت البحث في موضوع الإدمان، يجد أن هذا الأخير يشكل فعلا مجالا خصبا لعدد غير قليل من العلوم، ومع تعدد هذه العلوم تعددت معها الافتراضات والنتائج، ومع تعدد النتائج تنوعت النظريات والاتجاهات الفكرية والأطر النظرية، ومن ثم فالاعتماد على النظرية الواحدة يشكل نقطة قوة بالنسبة لدقة النتائج وهذا على المستوى النظري والبحثي، ولكنه يشكل نقطة ضعف على المستوى الممارسة العملية، ولكن نقطة الضعف على المستوى الممارسة العملية ستأخذ مسارا آخر قويا ومتكاملا، في حالة الاعتماد على أكثر من نظرية (المدخل التكاملي)، وهذا هو الأفيد إذا كنا بصدد البحث عن تصور جديد للتكفل بفئة المدمنين مع التسليم مبدئيا بالضبابية التي قد تكون على مستوى النظري والنتائج، وهو أمر سيجعل من الممارسة على مستوى الميدان، تتطلب مجهودا مضاعفا لمحاولة الوصول إلى تصور متكامل يأخذ بالتنوع النظري.
وعليه جاءت هذه الورقة لتتعرض إلى النظريات والنماذج المفسرة لظاهرة الإدمان، وتقدم وصفا شاملا لمختلف النظريات والنماذج السائدة التي حاولت تحديد طبيعة هذه الظاهرة ذات الجوانب المتعددة والأبعاد المعقدة، وتركز بشكل أساسي على النظريات السيكولوجية والبيولوجية والنظريات الاجتماعية-الثقافية، والنماذج الشمولية (البايكوسايكوسوشيال) التي تفسر الإدمان كونه استجابة لتركيبة تفاعلية لمجموعة من العوامل البيولوجية والنفسية والاجتماعية، لأن النظريات والنماذج ذات الصلة بهذا الموضوع، والتي تعد تتويجا لسلسلة من الأبحاث والدراسات العلمية الحثيثة هي كثيرة، إذ تنتظم بشكل واسع النطاق وطبقا للخصائص والسمات التي تتميز بها وتتضمن نماذج تقليدية، وأخرى معاصرة.
توفر هذه المداخلة الأطر المرجعية التي تساعد المتخصصين في مختلف المجالات على فهم وإدراك واستيعاب الإدمان، إذ تحاول أن تبحث في أصوله وعوامله وطبيعته (الأساس النظري والمعرفي)، وهل هو ظاهرة نفسية أو اجتماعية أو ظاهرة أخرى، لأن معرفة كنه وحقيقة الظاهرة هو الذي يسمح، وإلى حد بعيد، بتحديد المهارات العملية والتطبيقية اللازمة للعمل الميداني، إضافة إلى أنه يجعل من إستراتيجية المواجهة علمية وذات فائدة عندما يتم التفكير في تكوين أو تطوير سياسات فعالة لمواجهة هذه الآفة الخطيرة. وفيما يلي عرض لأبرز نقاط المداخلة:
1- تحديد مفهوم الإدمان والمخدر مع التطرق إلى المفاهيم المرتبطة والقريبة منهما.
2- النظريات والنماذج المفسرة للإدمان:
أ- النظريات البيولوجية.
ب- النظريات السيكولوجية (نظريات السمات- نظرية التعلم- النظرية النفسية الدينامية-نظرية التحليل النفسي).
ج- النظريات الاجتماعية–الثقافية(نظرية الأسرة-نظرية النظم-النظرية الانثروبولوجية-المنحنى البنيوي-نظرية الباب المفتوح- النظريات الروحية ونظرية التسامي)
د- النماذج الشمولية ( النموذج البيوسيكوسوشيال- نموذج الصحة العامة والنموذج البيئي).
وقد اختتم البحث بالحديث عن مسألة علاج الإدمان بين النظرية والتطبيق كمحاولة للخروج برؤية تصورية متكاملة للتكفل بفئة المدمنين على المخدرات.


















1- مفهوم الإدمان والمخدر وبعض المفاهيم المرتبطة بالإدمان:
أ- الإدمان(Addiction):
-الإدمان لغة:الإدمان لفظ مشتق من الفعل أَدْمَنَ، يُدْمِنُ، أَدْمِنْ، إِدْمَاناً، يقال أدمن الشيء بمعنى أدامه وواظب عليه (بن هادية وآخرون، 1995، ص25). والإدمان لا يقع إلاّ على الأعراض فيقال مثلاً: فلان يدمن الشرب أو الخمر بمعنى لزم شربها، فمدمن الخمر هو الشخص الذي لا يقلع عن شربها (ابن منظور، 1968، ص159).
- الإدمان اصطلاحاً: عرّفته منظمة الصحة العالمية بأنّه: "حالة نفسية وفي بعض الأحيان عضوية ناتجة عن التفاعل الذي يحدث بين الكائن الحي والمخدر، وتتميز باستجابات سلوكية عادة ما تتضمن دافعاً عنيفاً لتناول المخدر بشكل دائم أو بين فترة وأخرى للحصول على آثاره النفسية، وأحياناً من أجل تفادي أو تجنب الآثار المزعجة من تعاسة وقلاقل التي تنتج في حالة الامتناع"(Schilit andGomberg, 1991, p 4). وتفضل المنظمة استخدام مصطلح الاعتماديةعلى العقار المخدر، وهو مصطلح دبلوماسي بمعنى الإدمان والتعاطي (Lauri,1968, p11).وتضيف المنظمة أنّ هذا المفهوم ينطوي على الخصائص التالية:
- رغبة قهرية لتعاطي المخدر والحصول عليه بأي وسيلة وبأي ثمن.
- ميل واضح لزيادة الجرعة نتيجة لتعود الجسم على المخدر، أو لعدم الحصول على التأثير المعتاد.
- وجود حاجة نفسية وجسمية للتعاطي.
- حدوث نتائج وتأثيرات ضارّة بالمدمن وبالبيئة الاجتماعية (أبو غرارة، 1990، ص63).
ب- الاعتماد (Dependence): يلاحظ في بعض الأدبيات الاجتماعية أنّ هناك من يستخدم مفهوم الاعتماد بمعنى الإدمان، بحيث يتضمن مفهوم الاعتماد جميع أنواع المخدّرات سواء نتج عن تعاطيها اعتماد جسمي أم لم ينتج (العشماوي، 1995، ص51).
وعلى الرغم من اتفاق التعاريف على الخصائص المميزة للإدمان، التي لم تأخذ بالاعتبار شرط وجود الاعتماد الجسمي (العضوي) دوماً بوصفه مظهرا مصاحبا في حالة الامتناع؛ إلاّ أنّ هناك من يذهب إلى عكس ذلك، فيرى أنّ ثمة اختلافا يميز الإدمان عن غيره من المفاهيم الأخرى، ويتضح هذا الاختلاف فيما ينطوي عليه الإدمان من اعتماد جسمي في حالة الامتناع. فيؤكد "روبرت روب Robert Roop " أنّ استعمال مفهوم الإدمان يبقى قاصراً على المخدّرات التي يصاحبها في حالة الامتناع اعتماد جسميً، فالإدمان من وجهة نظره يجب أن يكون جسمانياً - قهرياً كحاجة ملحّة لا تنطفئ، أمّا "تيرنس كوكس وآخرونTerrence.c Cox and Others"، فيرون أنّ مفهوم الإدمان يجب أن يتضمن الاعتماد بنوعيه العضوي والنفسي دون التمييز بينهما (العشماوي، 1995،ص46-47)، ويظهر الاعتماد الجسمي (Physical Dependence) من خلال ظهور أعراض الانسحاب والانقطاع عن تناول المخدّر على الجسم، أما الاعتماد النفسي، فيشير إلى الرغبة الجارفة الإلزامية العارمة أو الحاجة المستمرة للتعاطي، التي تكون مقدرة تقديراً ذاتياً عالياً بمدى التأثيرات التي يُحدثها المخدّر(Singer, 1975, p 23).
ج- الاعتياد(Habituation): عرّفته لجنة الخبراء التابعة لمنظمة الصحة العالمية بأنّه حالة تنتج من جرّاء الاستهلاك المستمر لعقار ما. وتتصف بالخصائص التالية:
- رغبة غير قهرية للاستمرار في التعاطي.
- ميل ضئيل لزيادة الجرعة، وقد لا ينشأ هذا الميل إطلاقاً.
- درجة ما من الاعتماد النفسي مع عدم وجود اعتماد جسمي أو أعراض الانسحاب، وتقتصر آثار الاعتياد على الفرد فقط (العشماوي، 1995، ص43).
يبدو من خلال هذا التعريف أنّ هناك فرقاً واضحاً بين الاعتياد والإدمان، ويمكن ذكره في النقاط التالية:
- رغبة قهرية في الإدمان مقابل رغبة غير قهرية في الاعتياد.
- ميل واضح لزيادة الجرعة في حالة الإدمان مقابل ميل ضئيل - أو عدم وجوده- لزيادة الجرعة في حالة الاعتياد.
- وجود رغبة نفسية وأحياناً عضوية لتعاطي المخدر في حالة الإدمان، مقابل درجة ما من الاعتماد النفسي في حالة الاعتياد مع عدم وجود اعتماد عضوي.
- النتائج الناجمة عن الإدمان تلحق بالفرد وبيئته الاجتماعية على عكس الاعتياد، حيث تلحق الآثار فيه بالفرد فقط.

د- الاستعمال غير الطبي(إساءة الاستعمال)((Non Medical - Substance Abuse:
ورد في قاموس "وبستر" إساءة الاستخدام بمعنى: الاستخدام "اللامضبوط واللاصحيح"، ويشير مصطلح "إساءة الاستعمال إلى "الاستعمال نفسه" وعن طريق الرغبة الذاتية في ذلك ولأيّ مخدر، وبصورة أو بأسلوب ينحرف عمّا توافقه وتؤيده الأنماط الطبية والاجتماعية في ثقافة محددة من الثقافات (والمقصود بالثقافة هنا هي السلوكيات الاجتماعية) (Macdonald, 1984, p 52) كما يعرّف على أنّه: تناول لأيّة مادة كيميائية تحت ظلّ ظروف معينة أو على هيئة عبوات كاملة تزيد وبصورة جوهرية من القدرات، وسواء كانت تلك المادة مستعملة لأسباب مرضية، أم لأسباب شرعية، أو قام بوصفها أحد الأطباء لمريض، أو لم تكن كذلك((Schilit and Gomberg, 1991 ,p 4. ويقصد بالاستعمال غير الطبي الإفراط في استعمال عقار ما بصورة مستمرة أو دورية وبإرادة من المتعاطي، ودون الالتزام بالاستعمال الطبي المحدد أو الموصوف بواسطة الطبيب؛ من أجل الشعور بالارتياح أو بما يتوهمه المتعاطي بأنّه يشعر بالراحة، أو بدافع الفضول أو لاستشعار خبرة معينة (مصيقر، 1985، ص26). ففي بعض الحالات المرضية يستدعي العلاج الطبي بعض الأدوية المهدئة أو المسكنة لتخفيف الآلام، فعند عدم التزام المريض بطريقة العلاج الموصوفة أو في غياب إشراف الطبيب؛ يؤدي التعاطي المستمر لتلك الأدوية إلى الإدمان عليها، لتبدأ في مراحل تالية أعراض الاعتماد العضوي والنفسي بالظهور. وعليه، توجد هناك علاقة بين سوء الاستعمال والإدمان من ناحية أنّ سوء الاستعمال يؤدي، في بعض الأحيان، إلى الإدمان (العشماوي، 1995، ص50-51).
يستنتج من خلال هذا التعريف، أنّ هناك بعض الأدوية الطبية التي تستخدم لأغراض العلاج الطبي، ويؤدي سوء استعمالها إلى الإدمان، ومن ثم فإنّ أنواع المخدّرات تتسع لتشمل حتى بعض الأدوية الطبية التي لها التأثير نفسه لبعض المخدرات عند إساءة استعمالها.
هـ- التحمل(Tolerance): ويقصد به فقدان وانعدام الإحساس بمؤثرات المخدر، إٍٍذ يحتاج المدمن إلى جرعات أكبر ومتكررة أكثر للحصول على التأثير الذي اعتاده في الأول(Macdonald, 1684,p54). كما يشير التحمل أيضاً إلى القدرة التي يمتلكها الجسم لمقاومة تأثير المخدر حتى وإن أخذ بجرعات زائدة، فالتعاطي لفترة طويلة يدفع بالمتعاطي إلى زيادة الجرعة في كل مرة للحصول على التأثير المعهود، والسبب في ذلك يعود إلى اطراد نمو المناعة النسبية للجسم ضد تأثير المادة المخدرة إلى درجة تجعله قادراً على أخذ كميات زائدة لو تعاطاها فرد عادي لقضت عليه (غازي، 1965، ص25). وقد يكون التحمل عضوياً أو سلوكياً (عبد المنعم، 2003، ص38).
و- المخدر(Drug):
- المخدر لغة: للمخدر في اللغة معان عدّة، فالخَدَرُ بالتحريك امذلال يصيب الأعضاء اليد والرجل والجسد، كما يعني الكسل والفتور، يقال تَخَدَّرَ واختدر بمعنى استتر (الزبيدي، دت، ص140-141). وخُدِّرَ كأنّه ناعس، والخادر هو الفاتر الكسلان (ابن منظور، 1968، ص233). والخِدْرُ ستر يمدّ الجارية في ناحية البيت، ويقال أيضاً خدر الأسد في عرينه بمعنى أنّه لم يستطع الخروج وهو خادر مخدّر (بن عباد، دت، ص 299).
- المخدّر اصطلاحاً: المخدّرات مادّة خام أو مستحضرة قد تكون منبّهة أو مسكّنة، بحيث إذا استعملت لغير الأغراض الطبّية والصناعية، فإن من شأنها أن تؤدّي بالفرد إلى حالة من التعود والإدمان فتلحق به أضراراً جسمية، ونفسية، واجتماعية، وتمتد هذه الآثار لتشمل المجتمع (بدوي، 1977، ص118).
وتعرّف المخدّرات علمياً بأنّها كل مادّة كيميائية يؤدي تناولها إلى النعاس والنوم أو غياب الوعي المرفوق بالآلام. ووفقاً لهذا التعريف؛ فإنّ المخدّرات المنشّطة وعقاقير الهلوسة لا تدخل ضمن إطار المواد المخدّرة، بينما يندرج الخمر تحت صنف المخدّرات (دعبس، 1994، ص23)
ومن الناحية القانونية تعرّف المخدّرات بأنّها مجموعة المواد المحدثة للإدمان، يؤدي تعاطيها إلى تسمّم الجهاز العصبي، ويحضر تداولها أو زراعتها أو صناعتها إلاّ لأغراض محدّدة وبترخيص قانوني؛ وتشمل: الأفيون ومشتقاته؛ والحشيش؛ وعقاقير الهلوسة؛ والمنشّطات؛ والكوكايين، بينما لا تصنّف الخمر والمهدّئات والمنوّمات ضمن المخدّرات بالرغم من ثبوت أضرارها وقابليتها لإحداث الإدمان (العشماوي، 1995، ص10).
والمخدّرات شرعاً "مأخوذة من التفتير وهو ما يورّث ضعفاً بعد قوّة، وسكوناً بعد حركة، واسترخاء بعد صلابة، وقصوراً بعد نشاط …" (عرموش، 1993، ص 14). ويطلق في بعض الأحيان مصطلح المواد النفسية على المخدّرات لتشير إلى تلك المواد المحدثة للإدمان طبيعية كانت أو مصنّعة، وتشمل: الكحوليات؛ والأمفيتامينات؛ والقنبيات؛ والكوكايين؛ والمهلوسات؛ والأفيونات؛ والقات؛ والمواد الطيّارة (العضوية) (الجزيرة، 2001).
2- النظريات والنماذج المفسرة للإدمان:
تعكس نظريات الإدمان الاتجاهات والممارسات السائدة في هذا المجال. ومن أجل تقديم الوصف الشامل للإدمان تنتظم نظريات الإدمان ونماذجها وبصورة أوسع وطبقا لميزاتها وخصائصها، وتتضمن: النماذج التقليدية مثل: (النموذج الأخلاقي؛ والنموذج الشرعي؛ والنموذج القانوني؛ والنموذج الطبي؛ والنموذج الصيدلاني). أمّا النظريات المعاصرة؛ فتتضمن النظريات البيولوجية، والسيكولوجية والاجتماعية- الثقافية، بينما تتضمن النماذج الشمولية النموذج البيولوجي السيكولوجي- الاجتماعي، ونموذج الصحة العامة والبيئة(الأول كعامل، والثاني كتابع).
وتوفر هذه النظريات ونماذجها الأطر المرجعية التي تساعد المتخصصين في تفهم واستيعاب أسباب الإدمان ومعرفة جوانبه المختلفة، وتستخدم للقيام بالبحوث والدراسات العلمية وفي الوقاية والعلاج ولتطوير السياسات المتبعة. وفيما يلي عرض للنظريات المعاصرة التي حاولت تفسير الإدمان:
أ- النظريات البيولوجية(Biological theories):
كانت النظريات البيولوجية من أولى النظريات التي حاولت تفسير التعاطي الضخم والمنتظم انطلاقا من ميكانيزمات بيوكيميائية أو فسيولوجية. وشكّلت الدّراسات الإنسانية محور الأعمال المصمّمة لاختبار النظريات الجينية ذات الصّلة بالإدمان في بني البشر، لأنّه إذا كان للجينات تأثيرها في الإدمان؛ فإن أولئك الذين لديهم جزء من المادة الوراثية الخاصّة بهم التي توارثوها عن متعاطين؛ فإنّ هذا الموروث سيصل إليهم وسيعانون من تلك الحالة وتلك الظروف التي كان عليها آباؤهم، ويرى الباحث "أمارك" من خلال قيامه بإجراء دراسات تفصيلية موسعة على المجتمع السويدي، أن هناك عنصرا وراثيا أسريا ذا صلة بالإدمان الكحولي. وقام هذا الباحث بحساب إمكانية إدمان المسكرات بين الإخوة المعروف بأنهم من آباء مدمنين، فكانت نسبتهم في الإصابة بالإدمان(21%)، وبين الأخوات (من0- 9%)، وبين الآباء (26%) وبين الأمهات (2%) (Robinson, 1976, p 50- 51).
وتركّز النظرية الجينية على دور الوراثة في نشوء اختلالات الإدمان وتطورها، فالحساسية وسرعة التأثر واتجاه بعض الناس نحو الإدمان، هي التي شجعت وحثت العلماء للبحث عن العوامل التي تسهم في ذلك الإقبال واللهفة العالية تجاه المواد المخدّرة، فعلم الوراثة الجينية هو الذي كشف عن حقيقة الإدمان الكحولي لدى بعض الأسر، وتم افتراض زيادة احتمالية الأفراد في أن يصبحوا مدمنين على الكحول فيما بين جماعات إثنية وعرقية معينة، وذلك لعوامل جينية، أما بالنسبة للأفراد ضمن الجماعات الإثنية-العرقية الأخرى، فيبدو أن لديها عوامل جينية وقائية أو مناعة تجعل من المشكوك فيه بأنهم سيسيؤون استعمال الكحول أو الخمور.
وقد قامت التقنيات البيولوجية الجزيئية بعزل وتحديد الجينات التي قد تثير الرهبة للإدمان، إذ من الممكن أن تكون إنزيمات "المونو أمين" المؤكسدة و"الغدد اللمفاوية" هي المؤشرات البيوكيماوية للنزعات والميول الموجهة نحو الإدمان، وتؤدي الكحول والعقاقير المخدرة الأخرى إلى تغييرات في طبيعة الدماغ وتركيبته وإلى أمراض مزمنة تصيبه، ذلك أن مجرد رؤيته أو شمه يمكن أن يثير الدوائر الكهربائية في الدماغ والتي تتغير نتيجة لسوء استخدام العقار، ففي دراسة قامت بها مجموعة من طلبة كلية الطب في جامعة "بيل" استنتجت بأنّ بروتين "دلتا فوس ب" يثير أدمغة الفئران وجيناتها التي تعزّز اللهفة لتعاطي الكوكايين، وعندما تحدث هذه العملية لدى بني البشر، فهذا أمر يساعد على تفسير الإدمان على الكوكايين والذي يصعب علينا تحديده ومعرفته. وهناك مجموعة من العادات من أمثلتها: عادة التسوق المرضي، الإدمان الجنسي، وتجاهل الأوامر التي تتفاعل وبصورة سلبية مع القدرة على اتخاذ القرارات، ومن ضمنها القدرة على الاختيار السليم والعقلاني لاستخدام العقاقير وعواقبها. ويعاني المتعاطين المدمنون من الشره والقلق الدائم، ويمكن التخفيف منه بشراب آخر أو بعقار آخر أو بسلوكات أخرى، فتكون تأثيراته لذيذة للدماغ، أي أن الفرد يشعر بالسعادة ويخف القلق لديه، فالشراب الكحولي واستعمال أي مخدر أو القيام بسلوكات إدمانية مثل: لعب القمار، التسوق، ممارسة الجنس أو تجاهل المحظورات ، فكلها تزيد من اللذة أو تخفف من الألم، وعادة ما يقول مدمنو الهيروين بأنهم يستعملونه "لكي يشعروا بأنهم طبيعيون فقط لا غير".(Rasmussen, 2000. p31-32).
ويلاحظ الباحث " ماكليرن McClearn" بأنّ النموذج الجيني، يمكن أن يقدّم تفسيرا أكثر انتظاما من التفسير الاجتماعي- الثقافي، إذ يقول:" على كل الأحوال سيكون أحفاد وحفيدات المتعاطين للكحول بصرف النّظر عن مشاركتهم في تعاطي الخمر نتيجة لقرابتهم لأولئك المدمنين، وبصرف النظر عن الكثير من العوامل البيئية الكامنة في معظم التفسيرات الاجتماعية والثقافية، واعتمادا على المبادئ والقوانين الجينية الأساسية، سيكون هؤلاء المصابون وغير المصابين من السلالةنفسها"Robinson,1976, p 51)). ويشعر الباحث أنّه في الوقت الذي يتم فيه تفسير الفروق بين الجنسين في حالة الإدمان على المسكّرات، وذلك وفقا لأدوار الجنسين وللمؤثرات الثقافية الأخرى، التي لها ميزة كبيرة لا مجال للشك فيها، فإنه ينبغي صياغة موقفين ذي صلة وثيقة بموضوع حدوث تلك الحالة التي يتفوق فيها الذكور عن الإناث (من ناحية الإدمان الوراثي). ونستطيع أن نذكر بالتحديد حالتي الارتباط الجنسي (أي أن الجنسين لهما صلة وثيقة بالحالة الوراثية)، والمحدودية الجنسية (أي أن النسبة العليا للحالة الوراثية تكون لدى الذكور أكبر).
ومن إحدى المحاولات الجادّة لعزل العوامل الجينية والعوامل البيئية عن بعضها البعض في حالة الإدمان الكحولي، هي محاولة القيام بدراسة الأطفال الذين تبنتهم أسر أخرى؛ لأنّ كل طفل منهم سيشارك في العوامل البيئية التي وفرتها له أسرته الجديدة باستثناء الرابط الجيني، فالتشابه الأكيد للطفل مع بيولوجيات والديه الحقيقيين، يمكن الركون إليها واعتمادها كرابط جيني أو باعتبارها عوامل جينية موروثة. ولكن مثل هذا التصميم النظري قد تم تفنيده عمليا بواسطة الفترة الزمنية التي عاشها الطفل مع والديه الأصليين قبل فترة التبني، وبواسطة السياسات التي تتبعها وكالات التبني، وبمدى معرفة الأطفال والوالدين اللذين سيتبنونهم بوجود حالة إدمان كحولي لدى الوالدين الأصليين. وكشفت دراسة رائدة في مجال التبني عن عدم وجود فرق ذا دلالة إحصائية بين سلوكيات الإدمان الكحولي للأبناء المتبنين والذين كان آباؤهم الأصليين مدمنين، وبين أولئك الوالدين الأصليين الذين لا يتعاطون الكحول أو يتعاطونها بنسبة قليلة. ولكنّ الدراسة الحديثة التي قام بها " غودون Goodwin" وجماعته تشكك في هذه النتيجة، وتستنتج بأنّ شدة وحدّة الإدمان الكحولي للوالدين مرتبطة ارتباطا إيجابيا مع حالة الإدمان الكحولي لدى أبنائهم بصرف النظر عمّا إذا كانوا قد نشأوا عن والد مدمن، أو تربوا عند والدين آخرين أو تم تبنيهم مباشرة عند ولادتهم من قبل آخرين (, p 51-521976, Robinson). فالعوامل الجينية وحدها لا يحسب حسابها في نشوء وتطور وإساءة استخدام الكحول، فهناك مجموعة من العوامل البيئية هي التي تشكل وتصوغ وتدفع نحو التعاطي، ومن ضمنها الديناميات الأسرية، وسلسلة القيم الثقافية، وضغوطات الحياة اليومية Rasmussen, 2000, p31 )).
ب- النظريات السيكولوجية:
تشير أيّة نظرة ثاقبة للأدبيات المتوافرة بشأن الإدمان، إلى أنّ الدّراسات المتنوعة قد ساهمت نوعا ما في ظهور الآراء ذات الصّلة بعلم أسباب هذه السلوكيات. والملاحظ لأدبيات البحوث السيكولوجية المتخصصة في التعاطي، يستنتج بأنّ العديد من المتعاطين للمخدّرات كانوا يعيشون غربة وانعزالية، ويعتقد أنّ الأسباب المؤدية إلى التعاطي والإدمان هي أسباب مركّبة، وغالبا ما تكون ذات صلة متبادلة مع عوامل أخرى (MacGrath and Scarpitti, 1970, p 2).
وترى النّظريات السيكولوجية أنّ الإدمان– على الكحوليات-هو ظاهرة من الظواهر والأعراض ذات الصلة بشخصية الفرد أو باختلالاته الوجدانية – العاطفية، ويمكن هنا تمييز العديد من النظريات السيكولوجية أهمها:
أولا: نظرية السمات(Trait Theory): ترى نظرية السمات بأنّ هناك سمات شخصية وخصائص معينة تُفرض على الأفراد وتحفزهم نحو الإدمان (, p 322000 Rasmussen,). وقد جرت محاولات عديدة من أجل تحديد سمات شخصية المدمن وفقا لأنماط الشخصية وميزاتها، فقد حدد بلين بعضا من سمات الشخصية المدمنة، والتي عادة ما تذكرها الدراسات والبحوث الخاصة بتعاطي الخمر. وتتضمن هذه الميزات: حالة الكآبة المتدنية الدرجة؛ حب الاختلاط بالآخرين؛ ومشاعر الوضاعة (الإحساس بضعة النفس وهوانها) والمختلطة باتجاهات السّمو والفزع والاعتمادية على الغير(Robinson, 1976, p52). وهناك تقرير حديث يصف دراسة كندية قامت بمتابعة (1034) طفلا بدءا من مرحلة الروضة والمرحلة التمهيدية، واستمرت لمدة عشر سنوات؛ لتقييم سماتهم الشخصية وقياسها، فذكرت الدّراسة أنّ بعضهم بدأ بالتدخين فالكحول ثم بالمخدّرات الأخرى، فالبحث المكثف عن كل شيء جديد وتجنّب الأذى المتدني كانت لها دلالاتها الإحصائية في الدّراسة (Rasmussen, 2000, p 33).
وتشير النتائج التي توصل إليها الباحثان " جيرارد وكورنتسكي Gerard and Kornetsky " عام 1955م، من خلال دراستهما للمراهقين المدمنين على الهيروين، إلى أنّ هؤلاء الشباب قد تعرّضوا إلى سوء تكيف سيكولوجي حاد جدا. ووصفا المجتمع الدراسي بأنّه مجتمع مصاب بحالات حادّة من الإحباط المصحوبة بمشاعر مملوءة "بالعبثية واللاجدوى"، وبالفشل والانتكاس، ويعاني القسم الأكبر منهم من شيزوفرينيا مبدئية أو علنية صريحة، وتبين أنّ غالبيتهم يتصفون بإشكاليات في هويتهم وكينونتهم (3-2McGrath and Scarpitti,1970, p ).
ولكنّ الباحث "أورفورد Orford" وكما هو الحال في الكثير من بحوث الإدمان على الكحول يقول:" يمكننا أن نجد بالنسبة لأيّة عبارة نعثر عليها في أدبيات البحوث المتعلقة بالعلاقة بين الإدمان الكحولي وبين الشخصية؛ نتيجة مناقضة لها في دراسة أخرى"(Robinson, 1976, p 53). إذن ليس من المدهش ولا المثير أنّ تصبح العديد من سمات وخصائص السكارى الشخصية " والمتميزة " أقل أهمية مع استعمال اختبارات مقننة للشخصية الذاتية. وفي مراجعة قام بها الباحث "سيم Syme " للدّراسات "المنضبطة والمنتظمة"؛ استنتج قائلا: " لم تظهر أيّة نتائج معتمدة تشير إلى أنّ المدمنين للكحوليات كمجموعة يمكن تمييزها عن المجموعات الأخرى من النّاس العاديين" (Robinson, 1976, p 53).
ثانيا: نظريات التعلّم: حاولت نظريات التعلّم ذات الصّلة بالأنماط المتنوعة، أن تفسر أسباب لجوء بعض الناس إلى الإدمان على الخمور، فيرى بعض المنظرين أنّ تناول الخمور؛ ما هو إلاّ انعكاس اشراطي (Reflex) لأنواع معينة من المثيرات (Stimulus)، أو أسلوب للتقليل من اضطراباتهم وقلقهم ومخاوفهم. ووفقا لمبدأ اللذة تؤمن مثل هذه النظريات بأنّ النّاس يقبلون على المواقف المفرحة واللذيذة، ويتمردون على الشيء المحزن والمؤلم أو المواقف التي تثير التوتر والضغط، فالفرضية الأساسية لنظرية التعزيز التعليمية، هي أنّ العملية التعليمية لأي ارتباط بين مثير واستجابة؛ إنّما تتطلب بالتأكيد وجود نوع من المكافآت. ويقترح الباحثان "دولارد وميلر Dollard and Miller"، بأنّ الخمر هو المعزز؛ لأنّه يؤدي إلى التقليل من الخوف والصراع والقلق، في حين يعتقد الباحث "باندوراBandura " أنّ تناول الخمر بصورة مفرطة؛ إنّما يتم من خلال التعزيز الإيجابي النّاجم عن المثبط المركزي والعناصر المخدّرة للكحول، فالأفراد الذين يكررون استعماله نتيجة لتعرضهم للضغوطات البيئية، هم الذين سيكونون أكثر عرضة للإقبال على تناول المخدّرات وبشكل أكثر من أولئك الذين يتعرضون لضغوطات أقل، والذين تعتبر المخدّرات بالنسبة لهم ذات قيمة تعزيزية ضعيفة ومتدنية Robinson,1976, p 54-55)).
ثالثا: النّظرية النّفسية الدّينامية (Psychodynamic Theory):تفسّر هذه النّظرية الإدمان بمجموعة من العوامل هي:
- ينشأ الإدمان عندما يبدأ الأفراد باستعمال الكحول والعقاقير المخدّرة، واللّجوء إلى السلوكيات الأخرى لتجريب اللذة أو للهروب من الألم.
- يؤدي الصراع بين الأنا الدنيا والأنا العليا إلى إساءة استخدام المواد المخدّرة للتخفيف من القلق والاضطراب.
- الرعاية الذاتية (Self-Care) والمحافظة على الذّات (Self-Preservation) هي من مهمات وواجبات الأنا التي تقوم بتنظيم المشاعر وتنسيقها. وعليه، تؤدي النّقائص والاختلالات في الرعاية الذّاتية وفي تقديرها واحترامها مع الإحساس بالكينونة وبالرفاهية جنبا إلى جنب مع الفشل والنكوص في ضبط الوجدانيات والسيطرة عليها إلى الإدمان,p 32-33) 2000 Rasmussen, ).
رابعا: نظرية التحليل النّفسي(Psycho - analysis Theory):
تقوم سيكولوجية الإدمان حسب نظرية التحليل النفسي على أساسين، يتمثل الأساس الأوّل في صراعات نفسية تعود إلى: الحاجة إلى الأمن، والحاجة إلى إثبات الذّات والحاجة إلى الإشباع الجنسي النرجسي. وعليه، ففي حالة فشل الفرد في حل تلك الصراعات؛ فإنّه يلجا إلى التعاطي. ويتمثل الأساس الثاني في الآثار الكيميائية للمخدّر. وتفسّر نظرية التحليل النفسي ظاهرة الإدمان في ضوء الاضطرابات التي يتعرض لها الفرد في طفولته المبكرة، التي لا تتجاوز السنوات الثلاث أو الأربع الأولى، كما تفسّرها أيضا باضطراب العلاقات الحبّية في مرحلة الطفولة المبكّرة بين المدمن ووالديه، التي تتضمن ثنائية العاطفة، أي الحب والكراهية للوالد في الوقت ذاته، هذه العلاقة المزدوجة تسقط وتنقل على المخدّر، عندها يصبح المخدّر رمزا لموضوع الحب الأصلي الذي كان سابقا يمثل الخطر والحب معا، وترى هذه النظرية أنّ المدمن يلجأ إلى التعاطي من أجل طلب التوازن بينه وبين الواقع الذي يكاد أن يتعثر فيه، فيجد في المخدّر سندا له يساعده في حفظ ذلك التوازن (عبد المنعم، 2003، ص83-84). ويربط الكثير من مؤيدي نظرية التحليل النفسي حالة الإدمان الكحولي مع التركيز الجنسي الفموي، فالمدمنون يلجأون إلى استخدام العقاقير من أجل تحقيق لهفتهم الفموية- وهي بالطبع اللهفة الجنسية- والحاجة الماسّة للشعور بالأمن، وتنبثق الكآبات الفموية والإحباطات من الأطر الأسرية البائسة على حدّ تعبير هؤلاء المنظرين.
أما فيما يتعلق بالموقفين الأساسيين الآخرين لنظرية التحليل النفسي اللّذين صاغهما الباحثان "ما كورد وما كورد McCord and McCord " فهما:
- النظرية الألديرية (Alderianview) القائلة بأنّ الإدمان يمثل صراعا من أجل القوّة.
- النظرية– لم تسمى- القائلة: بأنّ الإدمان ينشأ على هيئة استجابات للصراعات الداخلية(Robinson,1976, p 56).
لكن الدلائل والإثباتات لنظرية التحليل النفسي ليست حاسمة ولا نهائية؛ لصعوبة ابتكار وتكوين اختبارات عملية تجريبية للتأكّد من مثل تلك الافتراضات.

ج- النّظريات الاجتماعية- الثقافية(Sociocultural Theory):
لا تخلو النظريات السيكولوجية المفسرة للإدمان من الانتقادات، فالنتائج التي توصل إليها الباحث "فاينستون Finestone " في دراسته المعنونة بـ:"المخدّرات وعلم الإجرام" عام 1957م لا تتفق مع مفهوم "الرجل المريض" الذي يوصف به المتعاطي للعقاقير المخدّرة. إذ لاحظ بأنّه ليس هناك دليل لأي تركيز مكثّف صادر عن المراهقين من ذوي الاختلالات في شخصياتهم في المحيط الذي يعيشون فيه، والذي يمتاز بأعداد كبيرة من الشباب المتعاطين للعقاقير المخدّرة. وبما أنّ العديد من المدمنين يقيمون في مناطق تكثر فيها الانحرافات، فإنّ هذا الاستنتاج قد عززته وساندته دراسة قام بها الباحث "فولكمان Volkman" عام 1958م الذي وازن بين مجموعة من المنحرفين ومجموعة أخرى من غير المنحرفين، واستنتج أنّ شخصية المدمن لم يكن لها ارتباط من الناحية السببية، واستنتج الباحث " وينك Winick "عام 1957م بأنّ هناك خللا في الدراسات السيكولوجية لمتعاطي العقاقير المخدّرة؛ لأنّ تلك النتائج انبثقت من بيانات تمّ تجميعها من أفراد مسجونين. ومعنى هذا الكلام أنّ الأفراد الذين قام معظم الباحثين بدراسة قضاياهم قد كانت من الأمور المنتهية بالنسبة إليهم، أو كانت شخصياتهم مستنتجة من عناصر وعوامل أخرى. ولا يتفق علماء الاجتماع كثيرا مع أولئك الذين ينظرون إلى استخدام العقاقير، والذين ينظرون إلى كافة الانحرافات الاجتماعية الأخرى على أنّها فقط مظاهر ومواصفات لبعض الظروف والحالات السيكومرضية. وقلّما تمّ قبول مثل هذا الاتجاه في ميادين علم الاجتماع العامة، ولا من قبل علم الإجرام أو علم النفس، ومثل هذا الاتجاه السوسيولوجي لتفهم واستيعاب استخدام المخدّرات يمثله الباحث "كلوسن" أحسن تمثيل، عندما يشير إلى الدراسات والبحوث التي تناولت الشخصية ونموها للساكنين في قاع المدينة، أي الأماكن المتدنية المستوى، فأشار إلى أنّهم كانوا من ذوي الصفات والسمات الشخصية المتشابهة تماما، على عكس ما يظن البعض بأنّها سمات ينفرد بها المدمنون فقط. ويفترض الباحث بأنّه ربما تكون سلاسة الضوابط الاجتماعية في مثل تلك المناطق المتدهورة جنبا إلى جنب مع وفرة المخدّرات فيها؛ عوامل تفرض نفسها من ناحية ارتباطها بالنسبة المرتفعة في الإقبال على تعاطي المخدّرات (MacGrath and Scrapitti, 1970, p 5-7 ).
وتفترض النظريات الاجتماعية وجود علاقة سببية بين تطور نوع ما من الإشكالية الإدمانية وبين الإطار السوسيوثقافي الذي تحددت فيه مواقع هذه الإشكالية وأمكنتها، وتطرح السؤال التالي: ما وظيفة الأسرة والبيئة والثقافة والعوامل الاجتماعية والاقتصادية الكامنة في تطور الإدمان؟
أولا: نظرية الأسرة: لا تؤمن نظرية الأسرة بالمبدأ القائل بأنّ الإدمان هو مشكلة فردية أو داء، وتتحقق نظرية الأسرة من كيفية مساهمة الأسرة في عملية الإدمان، وكيفية تأثير هذه المشكلة في كل فرد من أفراد الأسرة والأعباء الناجمة عن الأسرة بمجملها، فالإدمان إذن هو آلية من آليات المواجهة، والتسامح من جانب الأسرة يرسخ الإدمان، ومع مضي الوقت تتطور "الطقوس والقواعد" الأسرية التي تعمل على تحديد السلوكيات والأدوار التي يقوم بها أفراد الأسرة كافة تجاه الإدمان، فالاتصالات السّيئة والتعبير المحدّد والمحدود عن المشاعر؛ هي التي تتمتع بها الأسرة المصابة بالإدمان، والتفاعلات والتكهنات ستكون غير ثابتة وغير مستقرة، والسلوكيات الفظّة من جانب الأبناء هي الشائعة تماما في الجو الأسرى، ويكون الوضع سلبيا للغاية، إذ يسود النكران والغضب وعلاج الذات بما يحلو لصاحبها، ويتطور الإدمان المشترك ومع تطوره يصبح هذا الإدمان متفشيا في أفراد الأسرة، فتتصاعد حدة الخلل الوظيفي، وتشعر زوجة المدمن بأنّ كل شيء في داخلها وفيما حولها ليس تحت سيطرتها والأمور كلّها سائبة، فتتحمّل المسؤولية وتحاول أن تضبط نفسها وزوجها وسلوكياته تجاه تناول الشراب، وغالبا ما يتباين هذا التسامح ويتراوح بين القيام بعملية إنقاذ لزوجها وبين القيام بتوجيه اللّوم إليه ومعاتبته، ومصاحبة المدمن يديم الإدمان ويعززه، ويزيد من الخلل الأسري داخل الأسرة، وسيؤدي الاكتشاف المبكر للإدمان إلى حدوث انتكاسة جديدة، وربما يضطر الأطفال لأن يكونوا كبش فداء أو كأطفال ضائعين (Rasmussen, 2000, p 34).
ويبين "ولكر Walker" أنّ هناك نوعين من العوامل التي ترتبط بإدمان الأبناء عند وصولهم إلى سن المراهقة هما:
- صراعات خاصة بالرغبة في الاعتمادية، وتشمل:
- التذبذب الذي تبديه الأم بين العطف والحنان وبين النبذ.
- تهرب الأم من الأزمات الأسرية، وانصرافها إلى الخمر.
- انحراف سلوك الأم.
- إهانة الأب للأم.
- العلاقات المتنافرة بين الوالدين.
- عدم تقبل الأم لدورها الأمومي.
- عدم قدرة الطفل على إدراك دوره في المجتمع، ومن العوامل المتعلقة بهذا العجز:
- نبذ الوالدين للطفل.
- انعدام طموحات الوالدين بالنسبة لمستقبل أبنائهم.
- تهرّب الأب من المسؤولية الملقاة على عاتقه، وانعدام الرقابة على سلوك الطفل.
- ضعف الضوابط المفروضة من قبل الأم على سلوك الطفل (عبد المنعم، 2003، ص 97).
ثانيا: نظرية الأنساق (System Theory):تحاول نظرية الأنساق أيضا تفسير الإدمان، وتضع في اعتبارها مجموعة من الأنظمة السائدة وبيئات هذه الأنظمة، فالمؤسسات وعمليات التواصل والتفاعل والاعتمادية المتبادلة والمشتركة وتكامل الأجزاء والعناصر، هي التي تتميز بها هذه النظرية. ووفقا لما يذكره الباحث "برتالافي Bertalanffy " 1968م، فإنّ الأنظمة الحية كافة هي أنظمة منفتحة، ويحافظ النظام المنفتح على المدخلات والمخرجات المستمرة ذات العلاقة بالطاقة وبيئتها، ويصبح هذا النظام المنفتح أكثر تنوعا وتعقيدا وتنظيما. أمّا النظام المنغلق؛ فهو نظام منعزل عن بيئته، ويتوجه نحو "اللانظام" والفوضى المتزايدة. وتنظر نظرية النظم إلى الناس على أنّهم كائنات اجتماعية بدلا من النّظر إليهم على أنّهم ككيونات سيكولوجية أو بيولوجية، والتفاعل ما بين الفرد والبيئة أمر حيوي للغاية، فإزالة آثار المخدّر لمدمن متشرد ستكون معاملة سيئة إذا كان هذا المدمن سيرمى في الشارع مرة أخرى.
وإذا ما تم تطبيق نظرية النظم على الأسرة المدمنة، فسيكون من الواضح أنّ إساءة استخدام العقاقير أو ممارسة أي سلوكيات إدمانية، إنما يستهدف تحقيق غرض ينصب في النظام الأسري، ومن ثم فإنّها-الأسرة- ستؤدي دورا في بداية الإدمان، وفي تطوره، وفي معالجته.
ثالثا: النظرية الأنثروبولوجية:تركز النّظرية الأنثروبولوجية على القيم والاتجاهات والميول والمعتقدات، وعلى المبادئ والمعايير التي يؤمن بها المجتمع بالنسبة لاستخدام المخدّرات والسلوكيات الادمانية الأخرى، فالشعوب البدائية تعرف المخدّرات وتستخدم الأنواع العديدة منها، ولكن الإدمان على أيّ نوع منها نادر الحدوث، وتفيد الدراسات الثقافية المقارنة بأنّ الوظيفة والدلالة الرئيسية للكحول في كل المجتمعات هي التقليل من التوتر، الذي عادة ما يرتبط باللااستقرار والقلق الاجتماعي ومع الاختلال الوظيفي، أو مع التغير الذي يحدث في كل زاوية
(p 35 ,2000 Rasmussen ,).
رابعا: المنحنى البنيوي للإدمان:
يتضمن هذا المنحنى تطبيقا للمفاهيم التحليلية والسوسيولوجية – الاجتماعية في محاولة توضيح السلوكيات الشاذة والمنحرفة، وما يتضمنه هذا المنحنى هو الافتراض القائل بأنّ هناك ظروفا اجتماعية تعمل على إنتاج وخلق السلوكيات الشاذة والمنحرفة. لهذا يحاول مؤيدو هذه النظرة وضع ملخص للسمات والخصائص البنيوية ذات الصلة بالسلوكيات الشاذة، والتحقق من مدى علاقتها الكائنة بين صفات وخصائص اجتماعية معينة وبين الانحراف، فيرى هؤلاء أنّ هناك مجموعة من المتغيرات الاجتماعية (Social Variables) من أمثال: الطبقة الاجتماعية؛ والتفكك الاجتماعي؛ والاضطراب الاجتماعي؛ والتركيبة الاجتماعية؛ والوسط الاجتماعي؛ والتشرذم؛ والانقطاع الثقافي؛ وصراع الأدوار؛ هي التي تؤدي إلى الانحراف، ولاشك في أنّ هذه الرؤية نابعة من موقف يتعلق بنظام القواعد أو ما يسمّى بتوقعات الأدوار الوظيفية وتكهناتها، فالمضمون الوارد هنا يقول بأنّ الانحراف حركة مستقلة وخاضعة للرؤى الخاصة بالمعزز أو المحرض. وهذا هو الموقف الذي يتخذه الباحثان "بارسونس وميرتون" Parsons and Merton "، حيث يبدأ الباحثان بتحليل النموذج الستاتيكي للنظام الاجتماعي، ثم يطرحان سؤالا يتعلق بسببية وجود انتهاكات للمعايير والقيم، فالسلوكيات الشاذّة والمنحرفة حسب ميرتون ما هي إلاّ نتيجة لظرف خاص يتعلق بالبنية الاجتماعية التي يتوافر فيها التفكّك وعدم الترابط، فتلقي البنية الاجتماعية بظلالها وبضغوطاتها على الفرد لكي يتصرّف بشكل منحرف(, p2 1968Carey,). ويقدم علماء الاجتماع الأمريكيون من أمثال "ميرتون وكلاورد Kloward و"أوهلن Ohlin " تفسيرات ثقافية بخصوص تعاطي المخدّرات، فالتعاطي من وجهة نظرهم يمثل استجابة انسحابية تحدث لدى المتعاطي؛ لأنّ طرق وسبل النجاح أمامه غير متيسرة أو مغلقة، وفي الوقت ذاته يجد نفسه عاجزا عن ارتكاب أفعال إجرامية يحقق من ورائها أهدافه. ويفسّر ميرتون ارتفاع معدّلات الإدمان باعتبارها نتاجا للمواقف الاجتماعية التي يمجّد فيها الفرد هدف النّجاح الفردي، ويصدّ الأبواب في وجه بعض الفئات الأخرى التي تخالف فيما بعد معايير مجتمعها وتنحرف عنه، وقد يكون من صور هذا الانحراف إدمان المخدّرات (رفعت، 1980، ص99). ويقدم " دونالد تافت Donald Tafft " تفسيرا للانحراف الاجتماعي بما فيه الإدمان فيقول: " إذا كانت ثقافة ما تتسم بالتعقيد والدينامية، وتمجّد الشخص الذي ينجح في مواقف الصّراع والتنافس ولكنّها تسدّ الطريق أمام الكثير لتحقيق هذا النّجاح، فإنّ فشل هؤلاء يؤدّي إلى ظهور أنماط سلوكية عدائية ضارّة بمصالح المجتمع ككل" (رفعت، 1989، ص101).
ويقدّم بعض الباحثين تفسيرا اجتماعيا قائما على عملية التعلّم الاجتماعي، ومنهم "سوذرلاند Sutherland " الذي يرى بأنّ السّلوك الإجرامي هو سلوك متعلم يتم تعلمه من خلال الاتصال مع الآخرين أثناء مواقف التفاعل الاجتماعي (الوريكات،2004، ص123). ويؤكد " بيكر Bicker " أنّ السلوك الإنساني ما هو إلاّ نتاج لتتابع الخبرات الاجتماعية التي يكتسب الفرد من خلالها مفهوما عن معنى السلوك، كما يكتسب مدركات وأحكام معينة عن المواقف التي تجعل النشاط ممكنا ومرغوبا فيه، فيحدث الإدمان من وجهة نظر بيكر من خلال عملية التعلّم الاجتماعي (عبد المنعم، 2003، ص 88-99).
خامسا: نظرية الباب المفتوح (Gateway Theory): تفترض نظرية الباب المفتوح بأنّ استخدام المخدّرات بعينها يترك الأبواب منشرعة لاستخدام المخدّرات الأكثر عنفا وضررا. فقد استنتجت كثير من الدّراسات السائدة بخصوص المراهقين؛ أنّ استخدام التبغ ثم استخدام الكحول سيستمر متقدما لاستخدام المخدّرات الأخرى. وهناك نظرية الأشياء المتيسرة- الوفرة Availability Theory))التي تؤكد بأنّه كلّما زاد الإقبال على المواد المخدّرة أو سلوكياتها مثل: لعب القمار أو الجنس أو التسوق المرضي؛ ازدادت حدّة الإدمان ووفرته، وتهتم النظريات الاقتصادية بالتكلفة الاجتماعية للإدمان ,p36)2000 Rasmussen,).
سادسا: النظريات الروحية ونظرية التسامي:transcendental and spiritual theories:
إن الفلسفة الروحية سمة من السمات المهمة في رفاهية الإنسان وسعادته، لأن الإشكالية الروحية أو الدينية يمكن أن تكون بؤرة الاهتمامات الإكلينيكية-السريرية(منظمة أطباء النفس، 1994). ويرى الباحث الباحث "جونغ" (1922) إلى المحور الروحي على أنه قلب الطبيعة البشرية. ويعتبر الباحث "فرانكي" (1962) بأن الشعور الديني مترسخ تماما في أعماق كل شخص، ويؤكد الباحث "روجرز" (1980) على أهمية المحور الديني والروحي، ويعتبر الباحث "ماسلو" (1964) بأن بني البشر قادرون على التسامي إلى ما وراء حدود شخصيته الذاتيه وتحقيق الإحساس العميق بالخلود والقدسية. فعلم النفس الغيبي الذي يتجاوز حدود الذات ويطلق عليه البعض اسم السلطة الرابعة في علم النفس الغربي، يتجاوز النظريات الإنسانية والديناميكية، ويسعى إلى تكوين حالات متسامية من الوعي الروحي والارتباط الروحي، ويتحدث عالم النفس "جيرالدي"(1991) في كتاب له تحت عنوان "الادمان والنعمة" بأن لدى كل البشر غريزة فطرية اتجاه الله عز وجل، وسواء كنا متدينين أم غير متدينين، فإن هذه الرغبة هي أقصى أمنياتنا، فنحن نتلهف على التوحد ككل، وعلى التكامل، وعلى السعادة، ونتعطش على أن نحّب ونحب، وهذه الرغبة تبث الأمل والرجاء في قلوبنا، ولكن هناك من يقف حجر عثرة أمام هذه الطموحات. فالحياة الحديثة هي التي تخلق الإحساس بالوحدة وبالاغتراب عند جميع الناس، والإدمان يوفر الراحة المؤقتة، ويمكن أن يزيل الوحدة التي نشعر بها والألم الذي يأتي لنا من هذا العالم العجيب والغريب، والمواد المنشطة نفسيا والسلوكات الادمانية تساعد الناس عن التسامي عن الحقيقة التي أمامهم، ويعتقد الباحث "أوليفييرا" (1995) بأن الأفراد يشعرون بالنقص وباللاكمال وبأنهم فارغون وطبول جوفاء، فلا بد أن يملؤوا حياتهم، ومن خلال الإدمان يعوّض الأفراد عمّ يفتقدونه وأضاعوه في حياتهم، وستملئ المواد المنشطة نفسيا ذلك الفراغ…فاللهفة عبارة عن جوع وعطش لا حدود له لشيء مفقود في حياة الناس، وينشأ هذا الجوع والعطش في صلب كينونة الفرد، وتمثل اللهفة والرغبة الجامحة حاجة إلى الكمال رغبة جامحة نحو الحقيقة الباطنية ونحو السعادة والراحة والاطمئنان، ويصف الباحث "جونغ" اللهفة نحو الكحول بأنها تتساوى مع العطش الروحي والمعنوي لكينونتنا نحو كل متكامل.
ومازالت الروح المعنوية والدينية هي العنصر الأساسي للبرنامج المكون من (12) خطوة للشفاء من الداء والإدمان ولعشرات السنين، وتعتبر الأدوية وعلم النفس هما(القوتان الشافيتان للجسم والعقل، وللروح والجسد)، وكان عنوان المؤتمر الذي انعقد في نيويورك(1997) تحت عنوان "النفس، والروح، والإدمان) مؤتمر دولي كرس أعماله للحديث عن الجذور الروحية، والسيكولوجية والثقافية لسوء استخدام العقاقير وطرق معالجتها(Rasmussen, 2001, p 36-37).
لهذه النظريات الاجتماعية، حالها حال النظريات البيولوجية والسيكولوجية ذات الصّلة بالإدمان، نقاط ضعفها الجوهرية، فهناك الكثير من التساؤلات التي لا يمكن الإجابة عنها من منظور سوسيولوجي صرف ومجرد، وسنظل في حيرة من أمرنا بسبب مبادرة أفراد معينين باللّجوء إلى تعاطي المخدّرات،في حين أنّ الآخرين الموجدين في الإطار السوسيوثقافي نفسه لا يلجأون إلى ذلك، إضافة إلى أن الدّراسات الخاصّة بعلاقة الخلفية الأسرية بالإدمان قلّما ونادرا ما تعرف أوجه الشبه بين أسر المدمنين وغير المدمنين. فالدّراسات الطويلة المدى المتعلقة بنشوء وتطور الإشكاليات الادمانية الكامنة في النطاق الأسرى وفي العلاقات اليومية غير متوافرة، وبخاصّة أنّ هذه الأمور تعد جوهرية في أيّة نظرية سوسيولوجية.
د- النماذج الشمولية(Comprehensive Model):
أولا:النموذج البيوسيكوسوشيال(البيولوجي – السيكولوجي- الاجتماعي) (Biopsychosocial Model):
بدلا من النظر إلى الإدمان واعتباره ناجما عن منظور واعتبار واحد؛ يستخدم الكثرة من المتخصصين والأطباء هذا النموذج لتفهم واستيعاب أسباب المرض والتعبير عن نشأته ومعالجته والوقاية منه، فينظرون إلى الإدمان بوصفه تركيبة بيولوجية وسيكولوجية واجتماعية – ثقافية تحمل هذا المتغير وتتضمنه. ويضم هذا المنظور ويدمج في ثناياه جميع سماتوخصائصالنظريات البيولوجية والسيكولوجية والاجتماعية الثقافية، ويتناغم هذا النموذج وينسجم مع النظرة الكلية للمدمن.
ويحدد الباحث "سيديرر Sederer " عددا من المآخذ على هذا النموذج هي:
- أنّ هذا النموذج لا يزودنا بطريقة لإنشاء هرمية تنظيمية للمسببات.
- أنّ قدرة إحدى الجينات أو المورثات على تعديل إدمان الكائن الحي ومغزاه ومعناه، قد يطغى ويغطي عملية البحث عن الأسباب.
- من الصعب متابعة مراحل العلاج باستخدام هذا النموذج، وبصرف النظر عن هذهالانتقادات، فإنّ هذا النّموذج واسع الانتشار، وتتعامل عملية القياس والتشخيص الطبي والتخطيط العلاجي والتدخل الطبي الإجرائي، ثم عملية التقويم مع المتغيرات البيولوجية والسيكولوجية والاجتماعية كافة.
ثانيا: نموذج الصحة العامة والنموذج البيئي(Public Health Agent- HostEnvironment Model):
ظهر هذا النموذج في حقبة الستينات من القرن الماضي، وتوسع ليصف أسباب الأمراض والاضطرابات في العديد من المجالات الصحية العامة، أمّا فيما يتعلق بنموذج الصحة العامة(كضيف) والبيئة (كمضيف لذلك الضيف)، فهو نموذج شمولي للصحة العامة وللمرض الذي ينمو في بيئة صحية في المجتمع. وطبقا لهذا النموذج يعتمد مستوى الصحة العامة وحالة الاضطراب والقلق على التفاعلات الدينامية السائدة بين ثلاثة عناصر هي: العامل الضيف (المسبب)؛ والمضيف (السبب)؛ والبيئة، ويمكن أن يكون هذا العامل خارجي أو داخلي، بحيث أنّ غيابه أو حضوره سيؤدي إمّا إلى الداء أو إلى الاختلال أو الاضطراب. ففي حالة الإدمان يمكن أن يكون ذلك العامل مادة من المواد المخدّرة، أو أن يكون عادة على هيئة سلوكيات إدمانية مثل: القمار، والتسوق، والشراهة الجنسية، فيجب أن يكون العامل موجودا لكي ينمو ويتطور الإدمان (إذا لم تشرب لا تسكر)، ومع ذلك فإنّ وجود المادة نفسها – أو وجود السلوكيات الأخرى كعوامل – بحدّ ذاتها ولوحدها لن تؤدي إلى الإدمان بصورة مباشرة. أمّا المضيف، وهو الفرد؛ فيمكن التشكك بشأنه، فربما يكون لديه داء معين أو اختلال وظيفي معين، فهذا الدّاء وهذا الاختلال هو الإدمان في هذه الحالة، وتتضمن العوامل المضيفة التي تزيد من حالة التشكك في الإدمان: السجل/ التاريخ الأسرى لسوء استخدام المواد المخدّرة، وماضي سوء استخدام الجنس، ونمطية الحياة المدمرة للذات. ويصف مفهوم المرونة وسهولة التكيف وفقا لتغير طارئ إثر بلاء مقيم، العوامل الدفاعية للمضيف التي تزيد من احتمالية أنّ الفرد قد يقاوم وسيتحدى عملية التعاطي والاستعمال أو حتى عملية الإدمان. ولكن هناك أيضا العوامل الجينية المؤكدة، والأداء الوظيفي الأسري، والكفاية الذاتية، وميكانيزمات أو آليات الصحة العامة التي ستزيد من احتمالية أنّ الفرد سيقاوم عملية الاستعمال وسوء الاستعمال أو الإدمان.
وتتكون النظرية البيئية من كافة الظروف والشروط الاجتماعية والمادية الخارجة عن نطاق المضيف، وهي: المناخ؛ والسكن؛ والأسرة؛ والمدرسة؛ والجيران؛ ووسائط النقل؛ وأماكن العمل؛ وغيرها من العوامل. وتتضمن المثبطات البيئية الرئيسية: الخدمات الصحية البائسة؛ والفقر؛ والتشرد والحرمان والبطالة؛ والسجن؛ والتعرض للحروب والتورط في عمليات عدوانية؛ والتعرض للمصائب وللكوارث الطبيعية.
ويؤكد نموذج العامل – المضيف- البيئة، على التفاعلات الديناميكية السائدة بين هذه المتغيرات الثلاثة بوصفها محددات أكيدة للصحة أو للمرض. ويدعم نموذج الصحة العامة النظرية القائلة بتعدد الأسباب أو المسببات المركبة، ويقدم تفسيرات للعديد من الظواهر المعقدة مثل: الإدمان؛ والتشرد؛ وغيرهما (Rasmussen, 2001, p 37-38).


خاتمة:
ما كان هذا البحث إلا محاولة متواضعة لإلقاء الضوء على بعض النظريات والنماذج التي حاولت أن تبحث في موضوع الإدمان على المخدرات والخمور والعقاقير، لأنه في حقيقة الأمر أن هناك الكثير من النماذج التقليدية التي انصب اهتمامها على دراسة هذا الموضوع، ويمكن ذكر بعضها على سبيل المثال لا للحصر: النموذج الأخلاقي، النموذج الشرعي، النموذج الطبي، والنموذج الصيدلاني؛ ولكنه يبدو من الصعب تغطية كل هذه النظريات في بحث واحد، ولهذا تم الاقتصار على بعض النظريات والنماذج المعاصرة فقط، ولا يعد هذا تقصيرا أو الانتقاص من قيمة النماذج التقليدية السابقة فحسب؛ بل تكتسي هي الأخرى أهمية كبيرة، وربما شكلت المنطلق الأساسي للنظريات المعاصرة طالما أن العلم يتصف بالتراكمية، بحيث أن السابق من الأبحاث سند للاحق منها، واللاحق يكمل السابق ويضيف عليه.
لقد تم التعرض في هذا البحث إلى طائفة من النظريات والنماذج المعاصرة التي حاولت دراسة الإدمان وتحديد طبيعته وأسبابه وأبعاده وآثاره في بعض الأحيان، ويبدو جليا التعدد المتنوع للنظريات، فهناك نظريات بيولوجية تفسر الإدمان من منظور بيولوجي-وراثي-عصبي، ولها ما يدعمها من الافتراضات والأبحاث والدراسات والواقع، ونظريات سيكولوجية تركز على الجانب السيكولوجي-النفسي، ولها ما يدعمها كذلك، ونظريات أخرى اجتماعية-ثقافية تتخذ من الإطار السوسيوثقافي كإطار لعملية التحليل والتفسير وترتكز على دراسات وأبحاث علمية قيمة، وهناك نماذج شمولية حاولت الاستفادة من القصور والانتقادات الموجهة إلى كل نظرية من النظريات السابقة.
والملاحظ على الدراسات السابقة التي انتظم بعضها في شكل نموذج يعطي الخطوط العامة والعريضة، وانتظم بعضها الآخر في شكل أكثر تحديدا وهو النظرية، أنها تبين حقيقة التعقيد الذي يتميز به هذا الموضوع، أي تعدد جوانب الإدمان وأسبابه وعوامله وأبعاده، وهذا ما يعكسه أيضا تعدد الأطر المرجعية والافتراضات التي ينطلق منها كل باحث، وهو يرتبط بقدر معين بمجال التخصص، ولكن هذا الثراء والتنوع على مستوى البحث قد يطرح أمامنا جملة من التحديات على مستوى الممارسة الميدانية. وقد يطرح السؤال لماذا؟ وسيكون جواب هذا السؤال هو الإجابة على السؤال التالي ما الفائدة من تقديم هذه النظريات وهذه السلسلة من الأبحاث المتمايزة التي قامت عليها؟
إن الممارسة العملية التطبيقية في هذا المجال-سواء تعلق الأمر بالوقاية أو بالعلاج- ستكون ممارسة محكوما عليها بالفشل وزائفة وغير مفيدة ونافعة؛ إذا كانت تفتقر إلى أساس أو إطار مرجعي علمي، وهذا الإطار المرجعي لا يكون متيسرا إلا بعد الاطلاع على المجهودات الفكرية والعلمية والمنهجية الحثيثة التي قدمها الباحثين والمفكرين السابقين، والتي ترجمت في شكل نماذج ونظريات، ومن ثم فإن هذه النظريات ستساهم، والى حد بعيد، في تعزيز الممارسة العملية الوقائية والعلاجية إذا كنا بصدد التكفل بفئة المدمنين، وستكسبها صفة العلمية والواقعية، لأنها توفر للمتخصصين في المجالات المختلفة وصفا دقيقا للإدمان على المخدرات وتحدد أسبابه، كما تحدد لهم المهارات اللازمة، وبالتالي ستجعلهم أكثرا تحكما في الظاهرة، كما يبين ذلك التداخل الموجود بين النظريات أن هناك ارتباطا حقيقيا بين مختلف الأبعاد. ويقود هذا الطرح إلى التساؤلات التالية: على أية نظرية نعتمد في الممارسة العملية؟ وهل هناك نظرية أفضل من غيرها؟ وهل يخضع الأمر لعملية انتقاء؟ أم نعتمد على المدخل التكاملي؟ وهل بالفعل تتوفر لدينا اليوم المهارات التطبيقية اللازمة المرتبطة بكل نظرية؟ إن الإجابة على مثل هذه التساؤلات أمر صعب، وقد يحتاج إلى دراسات وأبحاث، ولكن يمكن القول أن إستراتيجية الوقاية والعلاج تتوقف على الأسباب والعوامل وحسب طبيعة كل حالة، وربما استخدام المدخل التكاملي سيجنب أوجه القصور الذي قد نقع فيه عند الاستناد على رؤية واحدة، ولكنه سيضع أمامنا تحديا صعبا وقاسيا يحتم علينا الإجابة على: هل المهارات العملية المتعلقة بهذا النوع من المنهج متوفرة ومتاحة لدى المتخصصين؟

هناك 6 تعليقات: