الخميس، 4 أغسطس 2011

النظرية الإسلامية


وقبل هذا سوف أتحدث عما يلي :

يتفق المشتغلون بالتوجيه والإرشاد على أن المرشد الطلابي بحاجة كبيرة للتعرف على النظريات التي يقوم عليها التوجيه والإرشاد وذلك يعود لأهمية تطبيقها أثناء الممارسة المهنية للعمل الإرشادي حيث أن هذه النظريات تمثل خلاصة ما قام به الباحثون في مجال السلوك الإنساني والتي وضعت في شكل إطارات عامه تبين الأسباب المتوقعة للمشكلات التي يعاني منها المسترشد كما ترصد الطرق المختلفة لتعديل ذلك ا لسلوك وما يجب على المرشد القيام به لتحقيق ذلك الغرض .

مفهوم النظرية :

هي مجموعة متكاملة متناسقة من المعلومات التي يفترض من خلالها فهم و تفسير معظم الظواهر السلوكية, وتقوم على مسلمات و افتراضات علمية موضوعية. وعلى خلاصة جهد الباحثين في فهم السلوك البشري 0

دور النظرية في الإرشاد:

تلعب النظرية دورا هاما في الإرشاد ، فهي تمدنا بالتالي :

1ـ فهم ملائم للسلوك الإنساني .

2ـ فهم السلوك السوي و السلوك المضطرب و أسباب اضطرابه.

3ـ تمنحنا طرقا و أساليب لتعديل السلوك المضرب و علاجه .

خصائص النظرية الجيدة:

1ـ الوضوح : حيث تشمل عدة إجراءات تضمن وضوحها مثل التعريفات,عدم تناقض المسميات.

2ـ الشمولية: تغطي الظواهر السلوكية و لا تقتصر على الحالات الشاذة.

3ـ قابليتها للبحث و التحقق: يمكن التأكد من فروضها و مفاهيمها و صلاحيتها عبر الأيام.

4ـ القابلية للتطبيق و الممارسة: تساعد الممارسين على تطبيق أساليبها في تعديل السلوك.

5ـ تحقيق الفائدة العلمية: حيث تقدم خدمات تطبيقية واسعة.

1ـ النظرية الأولى : النظرية الإسلامية

العلاج النفسي في الإسلام :

غالبا ما تتمثل الصراعات النفسية في التناقض بين قوى الخير والشر، وبين الغرائز والمحرمات ، من ذلك الشعور بالذنب والخطأ الذي كثيرا ما يتسبب في القلق والفزع والعدوان واضطراب الطبع والسلوك . بيد أن أصول الشخصية الأساسية في البيئة الإسلامية لا تزال ترتكز على القيم الحضارية المنبثقة من تعاليم الإسلام لأن هذه القيم تبقى من العناصر الرئيسية الواقية من المرض النفسي والمخففة لوطأته عند حدوثه . وقد أكد الكثير من علماء الإسلام على مفعول تعاليم الدين بقصد ترضية النفس واطمئنانها بواسطة التوبة والاستبصار واكتساب الاتجاهات الجديدة الفاضلة ، وأن شخصية المسلم ترتكز على الإيمان بالقضاء والقدر والبر والتقوى وعلى مسئولية الاختيار وطلب العلم والصدق والتسامح والأمانة والتعاون والقناعة والصبر والاحتمال والقوة والصحة 000الخ 0

وكل هذه الخصال تشجع على إنماء الشخصية واكتمالها بقصد السعادة النفسية الشاملة . ومن هنا يتجلى مفعول العلاجات التقليدية في البيئة الإسلامية ، الأمر الذي يفرض على الأطباء المحدثين أن يأخذوا هذه الطرق بعين الاعتبار ويدرسونها كي تستفيد ممارستهم الخاصة بتعاليمها وبذلك يحصل التنسيق والتكامل المنشود 0 والصحة النفسية تهدف إلى تنمية الفرد وجعله قادرا على نشاط مثمر وربط علاقات سوية مع الغير مع التمتع بإرادة ثابتة وعقيدة مثلى ليعيش في سلام وسعادة مع نفسه وذويه والمجتمع بصفة عامة . وإن الصراعات الباطنية التي يخوضها المرء طيلة حياته من شأنها أن تتسبب في اضطرابات نفسية شديدة إن لم يقع حلها بصفة مرضية وأخطر الصراعات تتمثل في الأنانية المفرطة والرغبات الملحة لتحقيق الشهوات مهما كانت الطرق والحيل المستعملة لهذا الغرض. وقد أجمع الكثير من العلماء على أن الخطأ هو في الذنب والألم الذي يشعربه الإنسان نتيجة ما ارتكبه من أعمال سيئة وقذرة . وتعتبر هذه العقدة العنصر الأساسي لتكوين العصابات أي ( الأمراض العصبية ) ، باعتبار أن مظاهر سوء التوافق النفسي تمثل أمراض الضمير بل هي حيلة دفاعية للهروب من تأنيب الضمير . ومن أهم الأعراض النفسية المرضية : مشاعر القلق ، والحصر ، والشعور بالذنب ، والخطأ ، أو بالعكس ، العدوان ، والظلم ، والسلوك المضطرب ، والمنحرف الخارج عن الإقليم والمقاييس الاجتماعية 0 ومن هنا نفهم الروابط والفوارق التي تقوم بين القيم الدينية والتحاليل النفسية الفرودية مثلا حيث أن النظرية الفرويدية يمكن أن تؤدي إلى سيطرة الغرائز الجنسية في كل الحالات ، ولربما تشجع على ذلك في مفهومها السطحي الشائع بينما تحث القيم الدينية على التحكم في الدوافع والتغلب عليها بسيطرة النفس الفاضلة الضمير وهو الأنا الأعلى عند فرويد ونفهم إذن كيف لا يسعنا في مجتمعنا العربي الإسلامي وقد أثبتت ذلك تجربتنا الطويلة إلا أن نتماشى مع هذه القيم الدينية الأصيلة التي لا تزال قائمة في النفوس بشكل من الأشكال ، وتعالج عادة الفرد من الصراع الذي يتخبط فيه انطلاقا من هذه المقاييس 0 وكثيرا ما يكون المريض يفهم خطابنا هذا ولا يفهم كلاما آخر مثل الكلام الغامض المعقد الذي نستخرجه من بعض النظريات شبه العلمية الغربية المصدر والتي لا تنفك باقية يوما بعد يوم عرضة إلى الانتقاد والمراجعة في المجتمع الغربي نفسه 0 زد على ذلك كشرط تقني أساسي للتشخيص والعلاج ، ضرورة فهم المريض من الداخل والتماشي معه يعني مع اعتقاداته وقيمه وإجمالا مع قواعد شخصيته الأساسية وهو السبيل الأفضل لمعاينته الدقيقة ولتركيز تشخيص مرضه بصفة قويمة ثابتة. هذا وإن الدين الإسلامي كثيرا ما يكون وسيلة لتحقيق الإيمان والسلام النفسي وهو إيمان وأخلاق وعمل صالح وهو الطريق إلى سيطرة العقل وإلى المحبة والسبيل القويم إلى القناعة والارتياح والطمأنينة والسعادة والسلام 0 وقد كتب وحلل وألف الكثير من الأطباء والعلماء المسلمين في مجال السعادة النفسية ، وإن كل المذاهب الفلسفية الإسلامية التي تعرضت إلى فهم الروح وتحليل جوهرها وماهيتها قد أتت كما هو معلوم بتعاليم قيمة لتحقيق الاطمئنان للأفراد والجماعات، عبر الزمان والمكان 0 ولنذكر إجمالا هنا تعاليم الخلفاء الراشدين ورجال التصوف وأعلام الفلسفة والفقه والمنطق الإسلامي الذين أصبحت تحاليلهم قدوة للنهضة الفكرية بالغرب أمثال الكندي والفارابي والرازي وابن سينا والغزالي وابن رشد وابن النفيس وإسماعيل الجرجاني وابن رشد وابن العربي وابن الجزار ومحمد الصقلي وغيرهم 0

1ـ طريقة العلاج الديني :

يضع البعض ( العلاج الديني ) الذي يقوم على مبادئ روحية سماوية مقابل ( العلاجالنفسي الدنيوي ) الذي يرتكز على السعادة في دار الدنيا بكل جوانبها المادية والأدبية ويقصد بذلك طرق العلاج التي تقوم على أساليب ومفاهيم وضعها البشر ولو كانت نفسية المصدر والأهداف لكن الدين يوفر أحيانا الأمن الذي قد لا تستطيع أساليب علم النفس المعاصر أن توفره ، ومع ذلك ففي طرق العلاج النفسي الدنيوي نجد بعض أعلامه يؤمنون بأن الدين عامل هام في إعادة الطمأنينة إلى النفس 0 فقد أكد ( كارل يونج ) أهمية الدين وضرورة إعادة فرص الإيمان والرجاء لدى المريض ، وأكد ( ستيكل ) أهمية تدعيم الذات الأخلاقية على هذا الأساس 0 ومن ذلك يصبح العلاجالنفسي الديني أسلوب توجيه وإرشاد وتربية وتعليم 0 ويقوم على معرفة الفرد لنفسه حسب المبادئ الروحية والأخلاقية العقائدية 0 ويمكن أن يمارس العلاج الديني كل من المعالج النفسي والطبيب النفساني وكذلك المربي وحتى رجل الدين على شرط أن يكون هؤلاء على دراية بأمر المصاب ويقع إرشادهم وتطلب مشاركتهم في هذا المجال من طرف الطبيب النفساني الحديث ، وهذا الأمر يجري العمل به مثلا في عديد من المصحات النفسية التي تعالج بأوروبا ( محاولات الانتحار ) مثل : مصحة فيينا المختصة بحالات الطوارئ الانتحارية ، ذلك لأن العلاج النفسي الديني ككل العلاجات النفسية بمثابة عملية يشترك فيها المعالج والمريض معا ولنحلل تيسير العلاج الديني على أساس :

1ـ الاعتراف :

وهو يتضمن شكوى النفس طلبا للغفران ، وكثيرا ما يستعمل الفرد الوسائل الدفاعية اللاشعورية مثل : الإنكار ، والإسقاط ، والتحويل ، أو التبرير وغيرها ، كي يخفف التوتر الذي ربما ينتج عن الشعور بالذنب والخطأ ، وعلى المعالج أن يحلل ذلك بكل دراية في الوقت المناسب وبالصيغة المناسبة 0 لذا فاعتراف المريض يزيل مشاعر الخطيئة والإثم ويخفف من عذاب الضمير فيطهر النفس المضطربة ويعيد إليها طمأنينتها 0 ولذلك يجب على المعالج مساعدة المريض على الاعتراف بخطاياه وتفريغ ما بنفسه من مشاعر الإثم المهددة ، على أن يتقبل المعالج ذلك في حياد ، ويتبع الاعتراف الرجوع إلى الحق والفضيلة والتوازن النفسي السليم مع الذات 0

2ـ التوبة :

وهي تناشد المغفرة وتمثل أمل المخطئ الذي تحرر من ذنوبه فيشعر الفرد بعدها بالتفريغ النفسي والانفراج 0 والتوبة كما يقول الغزالي (في إحياء علوم الدين) لها أركان ثلاثة : علم وحال وفعل ، فالعلم : هو معرفة ضرر الذنب المخالف لأمر الله ، والحال : هو الشعور بالذنب ، والفعل : هو ترك الذنب والنزوع نحو فعل الخير 0 والمعروف أن حجة الإسلام الإمام الغزالي يعتبر من رواد مؤسسي علم النفس الإسلامي ويقول الله عز وجل: { قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم } 0 ويقول رسول الله عليه الصلاة والسلام : (التائب حبيب الرحمن والتائب من الذنب كمن لا ذنب له ) . ومن هنا نفهم مدى أهمية الالتجاء إلى هذه المفاهيم كي يعالج ( العصابي المسلم ) من صراعاته والمكتئب من يأسه وتذنيب ذاته وكذلك السيكوباتي من تكرار أعماله العدوانية الشنيعة وذنوبه المتكررة 0

3ـ الاستبصار :

ومعناه الوصول بالمريض إلى فهم أسباب شقائه ومشكلاته النفسية وإدراك الدوافع التي أدت به إلى حالته المضطربة وفهم ما بنفسه من خير وشر ، وتقبل المفاهيم الجديدة مستقبلا بصدر رحب ، ويعني هذا نمو الذات البصيرة . وقال تعالى في هذا الصدد : { بل الإنسان على نفسه بصيرة } . وهذه الطريقة المثلى كثيرا ما تستعمل في عديد من مظاهر العلاجات النفسية المعاصرة بما فيه التحليل النفسي الفرويدي أو طريقة كارل روجيرس 000الخ 0

4ـ اكتساب اتجاهات وقيم جديدة :

من خلال ذلك يتم تقبل الذات وتقبل الآخرين والقدرة على تحمل المسئولية وعلى تكوين علاقات اجتماعية مبنية على الثقة المتبادلة والقدرة على التضحية وخدمة الآخرين ، وكذلك اتخاذ أهداف واقعية وإيجابية والحياة مثل القدرة على الصمود والعمل المثمر والإنتاج 0 وهكذا تتم تنقية الضمير (أو الأنا الأعلى) كسلطة داخلية أو رقيب نفسي على السلوك ويتم تطهير النفس وإبعادها عن الرغبات المحرمة واللا أخلاقية واللا اجتماعية ويستقيم سلوك الإنسان بعد أن تتبع السيئات الحسنات فتمحوها وقال تعالى : { وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات ذلك ذكرى للذاكرين } وقال أيضا : { يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية، فادخلي في عبادي وادخلي جنتي } .

• استخدامات العلاج النفسي الديني :

هذا ويمكن اليوم حسب ما أكدته لنا التجارب استخدام العلاج النفسي الديني في البلاد العربية والإسلامية ، وبصفة خاصة والحالات التي يتضح أن أسبابها وأعراضها تتعلق بالسلوك الديني للمريض ، بالإضافة إلى الهذيانات الدينية نفسها بل في غالب الحالات فإن العلاج الديني يفيد كثيرا في نوبات القلق والوسواس والهستيريا وتوهم المرض أو داء المراق والخواف والرهاب والاضطرابات الانفعالية ، ومشكلات الزواج وكل الصراعات الفتاكة المبنية على التكالب عن ، ملذات دار الدنيا أو على الهرب في وضعية اليأس والانهيار النفسي ، وخاصة الإدمان على الكحول الذي يحرمه الدين وحالات الاكتئاب والتشاؤم والمسالك الانتحارية المحرمة أيضا بتاتا في القرآن والحديث ، وحتى الوضعية السيكوباتية التي هي مشهورة بشدة تأصلها وصعوبة علاجها 0

• قواعد التربية الدينية في الإسلام :

إن التربية بمعناها الواسع تشمل عادة صفة من صفات التربية الدينية لاسيما في بلادنا العربية والإسلامية وهي منبثقة من المحيط الأطلسي سواء من الأبوين أو من المدرسة ، ذلك أن تربية الشخص تتضمن تقويمه في حدود إطار أخلاقي للسلوك وإن القيم الروحية والأخلاقية المنبثقة من تعاليم الإسلام كثيرا ما تهدي الفرد إلى الاستقامة والسلوك السوي ولقد قيل " من يسلك بالاستقامة يسلك بالأمان " وفي كل الأحوال يبقى مشكل ، سلوك الإنسان مرتبطا بمكارم أخلاقه إن الأخلاق المستمدة من الدين تنظم سلوك الإنسان وتهديه إلى الصراط المستقيم وتحاسبه إن هو أخطأ أو انحرف. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق ) وقال على بن أبي طالب رضي الله عنه : " نعم الحسب الخلق الحسن " . وحسن الأخلاق يتماشى مع الاستقرار النفسيوترضية الضمير والكف عن السباق نحو شهوات الدنيا وما ينتج عن ذلك من حسد وحقد وصراع بين الأشخاص وفي نفسيه الفرد بذاته 0

• شخصية المسلم واطمئنان النفس :

إذا أردنا استعراض سمات شخصية المسلم كما حددها الدين لاستغرقنا في الحديث طويلا فلنكتف ببعض نماذج تستخلص من كلام الله عز وجل وحديث رسوله عليه الصلاة والسلام حول سمات شخصية المسلم :

1ـ الإيمان بالقدر والمكتوب : قال تعالى : ( قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا هو مولانا وعلى الله فليتوكل المؤمنون ) 0وهنا ينبغي أن يفسر هذا القول دوما بصفة إيجابية كحث على قبول المصائب بصدر رحب دون الالتجاء إلى مظاهر اليأس والوهن والانهيار أو دون الالتجاء إلى السلوك العدواني المعاكس أو التهجمات المفرطة التي لا يحمد عقباها ، ولا يعني ذلك الاستسلام بل العمل على أن نتعدى أمرنا ونقفز بعد ذلك إلى الأمام لنتغلب على الشدائد والمصائب 0

2ـ مسئولية الاختيار : قال تعالى : { بل الإنسان على نفسه بصيرة } ، وهنا تتجلى حرية الفرد في اختيار مواقفه وسلوكه بكل دراية وهو هدف عديد من العلاجات النفسية المعاصرة.

3ـ طلب العلم : قال الله تعالى : { فتعالى الله الملك الحق ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه وقل رب زدني علما } ، ويتضمن ذلك قابلية المؤمن للتوعية والإرشاد

4ـ الصدق : قال تعالى : { يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين } ، والصدق فضيلة هامة جدا يرتكز عليها اطمئنان النفس إلى حد بعيد ، ويقاس به مدى انهيارها إذا خلفت ذلك ، من ذلك أن بعض الأخصائيين في علم النفس الحديث قد اخترعوا ركائز لقياس مقدرة الفرد على الصدق والإخلاص ( استخبار الصدق لهنري باروخ ) 0

5ـ التسامح : قال الله تعالى : { ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه كأنه ولي حميم } ، والتسامح من الفضائل الهامة لاطمئنان النفس ونيل الارتياح 0

6ـ الأمانة : قال تعالي : { إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل إن الله نعما يعظكم به إن الله كان سميعا بصيرا } 0

7ـ الرحمة : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( الراحمون يرحمهم الرحمن ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء ) ، وهذه الخصال الحميدة لها وزن كبير في سلوك الأفراد الأسوياء والمرضى في آن واحد ، ولنذكر هنا بطاعة الوالدين والعناية بهما وبضرورة حسن معاملة الأولياء لأبنائهم ولذويهم على أسس المحبة والرحمة 0

8ـ التعاون : قال الله تعالى : { وتعاونوا على البر والتقوى } ، وقال أيضا : { إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم واتقوا الله لعلكم ترحمون } ، وقال أيضا : { والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويطيعون الله ورسوله أولئك سيرحمهم الله إن الله عزيز حكيم }، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه ) 0 وفي ذلك أعظم العبر وأسمى التعاليم للتوافق الأسري والاجتماعي الذي ترتكز عليه قواعد الصحة النفسية 0

9ـ القناعة : وهي من أفضل الخصال البشرية التي تنهي عن التناطح العنيف نحو تحقيق السعادة المادية التي لا حد لها ، والتشبع بقيم التنافس القاسي الذي لا رحمة فيه لأحد والذي يتصف به من سوء الحظ عديد من مظاهر المجتمعات العصرية المرتكزة على قاعدة الاستهلاك شرقا وغربا ، وقد ازدادت في هذه المجتمعات الأمراض النفسية في الكم والكيف كما هو معروف 0 أما القناعة فهي تعالج الاضطرابات النفسية الناجمة عن الحقد والغيرة وكراهية الغير المنافس ، ومن جهة أخرى السلوك المنحرف الناتج عن الإحباط وما ينتج عنه من سوء التوافق الفردي مع الذات ومع الغير ، وإن كان المسلم يحمد الله فليس لغرض غير غرض السعادة الروحية والاطمئنان وقبول حالته بصدر رحب مع الملاحظ أن ذلك لا يعني الاستسلام والفشل والركود في الذل والخسارة والخصاصة ، بل إن القيم الأخلاقية الإسلامية تشجع كما هو معروف من جهة أخرى على الإقدام والإنتاج والابتكار لكن بدون أن تستعمل في ذلك وسائل القهر والعنف والحيل الظالمة والرذائل المكروهة بصفة عامة 0

10ـ الصبر : قال تعالى : { يا أيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر والصلاة إن الله مع الصابرين } ، وقال تعالى : { وبشر الصابرين } 0 ويا لها من عبرة فائقة في هذا الصدد حيث تتكاثر الأمثلة في مجال الطب النفسي التي تبرهن على أهمية الصبر والتحكم في النفس على هذا الأساس 0

11ـ العفة : قال تعالى : { وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى } 0 ومن هنا يتجنب الفرد الشر والرذائل على مختلف أنواعها 0

12ـ القوة والصحة : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف ) ، وقال أيضا عليه الصلاة والسلام : ( إن الله لم يضع داء إلا وضع له دواء ) 0 وفي ذلك تشجيع على تقوية النفس وتسييرها نحو الإقدام والشجاعة ومزيد من الفاعلية والتفاؤل للخير مستقبلا وكذلك بقصد تجنب كل بوادر اليأس والانهيار هذا وينبغي للطبيب النفسي المسلم المعاصر أن يفهم كل هذه التعاليم والقيم في مظاهرها الإيجابية الفاضلة وفي غاية من الاتزان والاعتدال ، ليتمكن من تحقيق التوافق النفسي والرقي البشري للفرد والجماعات في كل المجالات . ومن هنا نستخلص في آخر الأمر قوة مفعول العلاجات التقليدية النفسية التي تستعمل إلى يومنا هذا في كل الأقطار العربية الإسلامية في زوايا الأولياء الصالحين ، ومن طرف المعالجين التقليديين غير الأطباء الذين يبرهنون أحيانا على مهارة مدهشة وعلى تحكم دقيق في أساليب علاجاتهم الروحانية هذه بينما يعجز بعض الأطباء المحدثين 0 على أن هؤلاء المعالجين يتصفون أحيانا بالشعوذة والتدجيل من سوء الحظ وعلى الطبيب المعاصر الماهر أن يغربل ما بين الفضائل والرذائل وما بين اللب والقشور ، ويستخلص من كل هذه الطرق العبرة والمفاهيم الصحيحة ليركز المريض على أساس إيجابي انطلاقا من اعتقاداته الأصلية وفي فائدته أولا وبالذات 0

• الوقاية الدينية من المرض النفسي :

ومن ذلك كله يتجلى أن الإيمان كثيرا ما يكون العقيدة المثلي والسلوك الصالح لاستقرار الأنا واطمئنان النفس ، لكن السلوك الذي يخرج عن الدين أو بالعكس الذي يأخذ شكل العبادة المفرطة يصل أحيانا أمرا خطيرا قد يؤدي إلى الشذوذ والانحراف وإلى مشتبكات نفسية معقدة ومن ذلك ينبغي أن تتضمن الوقاية من المرض النفسي في البيئة العربية الإسلامية الاهتمام بالتربية الأخلاقية، وبتركيز القيم الدينية كدعامة للسلوك السوي وكشرط أساسي للتوافق النفسي والاجتماعي . والمعروف، أن الدين الإسلامي يوحي بالاهتمام بالحياة الدنيا والآخرة، وبإحداث توازن بين الملذات والماديات والأخلاقيات والروحانيات كي يتم التوافق النفسي . ولقد قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه " اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدا واعمل لآخرتك كأنك تموت غدا ". ولنختم كلامنا بقول الشيخ الرئيس ابن سينا الذي أشار إلى أن أنفع البر هي الصدقة وأزكى السر هو الاحتمال، وخير العمل ما صدر عن خالص نية، وخير النية ما صدر عن الحكمة والفضائل وعن معرفة الله أول الأوائل 0

• القرآن والهدوء النفسي :

قال تعالى : { الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون }الأنعام 0

الحياة كنوز ونفائس أعظمها الإيمان بالله ، وطريقها منارة القرآن الكريم فالإيمان إشعاعه أمان ، والأمان يبعث الأمل ، والأمل يثمر السكينة ، والسكينة نبع للسعادة ، والسعادة حصادها أمن وهدوء نفسي ، فلا سعادة إنسان بلا سكينة نفس ، ولا سكينة نفس بلا اطمئنان القلب 0 مما لا شك فيه أن كلاً منا يبحث عن السعادة ويسعى إليها ، فهي أمل كل إنسان ومنشود كل بشر والتي بها يتحقق له الأمن النفسي 0 والسعادة التـي نعنيها هي السعادة الروحية الكاملة التـي تبعث الأمل والرضا ، وتثمر السكينة والاطمئنان ، وتحقق الأمن النفسي والروحي للإنسان فيحيا سعيداً هانئاً آمناً مطمئناً 0 وليس الأمن النفسي بالمطلب الهين فبواعث القلق والخوف والضيق ودواعي التردد والارتياب والشك تصاحب الإنسان منذ أن يولد وحتى يواريه التراب0 ولقد كانت قاعدة الإسلام التي يقوم عليها كل بنائه هي حماية الإنسان من الخوف والفزع والاضطراب وكل ما يحد حريته وإنسانيته والحرص على حقوقه المشروعة في الأمن والسكينة والطمأنينة وليس هذا بالمطلب الهين فكيف يحقق الإسلام للمسلمين الأمن والسكينة والطمأنينة. إن الإسلام يقيم صرحه الشامخ على عقيدة أن الإيمان مصدر الأمان، إذن فالإقبال على طريق الله هو الموصل إلى السكينة والطمأنينة والأمن ، ولذلك فإن الإيمان الحق هو السير في طريق الله للوصول إلى حب الله والفوز بالقرب منه تعالى. ولكن كيف نصل إلى هذا الإيمان الحقيقي لكي تتحقق السعادة والسكينة والطمأنينة التي ينشدها ويسعى إليها الإنسان لينعم بالأمن النفسي. إننا نستطيع أن نصل إلى هذا الإيمان بنور الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، ونور الله هنا هو القرآن الكريم الذي نستدل به على الطريق السليم ونأخذ منه دستور حياتنا . . وننعم بنوره الذي ينير القلب والوجدان والنفس والروح والعقل جميعاً . أليس ذلك طريقاً واضحاً ووحيداً لنصل إلى نعمة الأمن النفسي ؟ لقد عُنـي القرآن الكريم بالنفس الإنسانية عناية شاملة . . عناية تمنح الإنسان معرفة صحيحة عن النفس وقاية وعلاجاً دون أن ينال ذلك من وحدة الكيان الإنساني ، وهذا وجه الإعجاز والروعة في عناية القرآن الكريم بالنفس الإنسانية ، وترجع هذه العناية إلى أن الإنسان هو المقصود بالهداية والإرشاد والتوجيه والإصلاح. فلقد أوضح لنا القرآن الكريم في الكثير من آياته الكريمة أهمية الإيمان للإنسان وما يحدثه هذا الإيمان من بث الشعور بالأمن والطمأنينة في كيان الإنسان وثمرات هذا الإيمان هو تحقيق سكينة النفس وأمنها وطمأنينتها. والإنسان المؤمن يسير في طريق الله آمناً مطمئناً ، لأن إيمانه الصادق يمده دائماً بالأمل والرجاء في عون الله ورعايته وحمايته ، وهو يشعر على الدوام بأن الله عز وجل معه في كل لحظة ، ونجد أن هذا الإنسان المؤمن يتمسك بكتاب الله لاجئاً إليه دائماً ، فهو بالنسبة له خير مرشد بمدى أثر القرآن الكريم في تحقيق الاستقرار النفسي له. فمهما قابله من مشاكل وواجهه من محن فإن كتاب الله وكلماته المشرقة بأنوار الهدى كفيلة بأن تزيل ما في نفسه من وساوس ، وما في جسده من آلام وأوجاع ، ويتبدل خوفه إلى أمن وسلام ، وشقاؤه إلى سعادة وهناء كما يتبدل الظلام الذي كان يراه إلى نور يشرق على النفس ، ويشرح الصدر، ويبهج الوجدان . . فهل هناك نعمة أكبر من هذه النعمة التي إن دلت على شيء فإنما تدل على حب الله وحنانه الكبير وعطائه الكريم لعبده المؤمن. إن كتاب الله يوجه الإنسان إلى الطريق السليم ، ويرشده إلى السلوك السوي الذي يجب أن يقتدى به . . .يرسم له طريق الحياة التـي يحياها فيسعد في دنياه ويطمئن على آخرته. إنه يرشده إلى تحقيق الأمن النفسي والسعادة الروحية التي لا تقابلها أي سعادة أخرى ولو ملك كنوز الدنيا وما فيها. إنه يحقق له السكينة والاطمئنان ، فلا يجعله يخشى شيئاً في هذه الحياة فهو يعلم أنه لا يمكن أن يصيبه شر أو أذى إلا بمشيئة الله تعالى ، كما يعلم أن رزقه بيد الله وأنه سبحانه وتعالى قد قسم الأرزاق بين الناس وقدَّرها ، كما أنه لا يخاف الموت بل إنه حقيقة واقعة لا مفر منها ، كما أنه يعلم أنه ضيف في هذه الدنيا مهما طال عمره أو قصر، فهو بلا شك سينتقل إلى العالم الآخر، وهو يعمل في هذه الدنيا على هذا الأساس ، كما أنه لا يخاف مصائب الدهر ويؤمن إيماناً قوياً بأن الله يبتليه دائماً في الخير والشر، ولولا لطف الله سبحانه لهلك هلاكاً شديداً. إنه يجيب الإنسان على كل ما يفكر فيه ، فهو يمنحه الإجابة الشافية والمعرفة الوافية ، لكل أمر من أمور دينه ودنياه وآخرته. إن كتاب الله يحقق للإنسان السعادة لأنه يسير في طريقه لا يخشى شيئاً إلا الله، صابراً حامداً شاكراً ذاكراً لله على الدوام ، شاعراً بنعمة الله عليه . . يحس بآثار حنانه ودلائل حبه... فكل هذا يبث في نفسه طاقة روحية هائلة تصقله وتهذبه وتقومه وتجعله يشعر بالسعادة والهناء ، وبأنه قويٌ بالله . . . سعيدٌ بحب الله ، فينعم الله عز وجل عليه بالنور والحنان ، ويفيض عليه بالأمن والأمان ، فيمنحه السكينة النفسية والطمأنينة القلبية. مما سبق يتضح لنا أن للقرآن الكريم أثر عظيم في تحقيق الأمن النفسي ، ولن تتحقق السعادة الحقيقية للإنسان إلا في شعوره بالأمن والأمان ، ولن يحس بالأمن إلا بنور الله الذي أنار سبحانه به الأرض كلها ، وأضاء به الوجود كله . . . بدايته ونهايته ، وهذا النور هو القرآن الكريم. ويؤكد لنا القرآن الكريم بأنه لن يتحقق للإنسان الطمأنينة والأمان إلا بذكره لله عز وجل ، قال تعالى : (الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب) [الرعد:28] إذن علينا أن نتمسك بكتاب الله ونقتدي به ، ونتدبر في آياته البينات ، ونتأمل في كلماته التي لا تنفد أبداً ، قال تعالى : (قل لو كان البحر مداداً لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ولو جئنا بمثله مدداً) [الكهف:109] حتى نتحلى بالإيمان الكبير في هذه الرحلة الروحية مع آيات الله فنتزود بما جاء به القرآن الكريم من خلق عظيم ، وأدب حميد ، وسلوك فريد ، ومعرفة شاملة بحقيقة النفس الإنسانية كما أرادها الله عز وجل أن تكون ، وترتقي حيث الحب والخير والصفاء والنورانية ، فننعم بالسلام الروحي الممدود ، والاطمئنان القلبي المشهود والأمن النفسي المنشود 0

• رأي حول العلاج بالقرآن :

شاع في السنوات الأخيرة موضوع العلاج بالقرآن واختلط فيه الحابل بالنابل ، ومارسه أناس بسطاء ذوي نوايا طيبة غالباً وعلم بسيط, ومارسه أيضاً أناس مستغلون تستروا وراء قدسية القرآن ومارسوا خلفها كل الموبقات, وحدثت التباسات كثيرة كما هو حادث في كثير من أمور حياتنا منها أن القرآن شفاء للنفوس وبالتالي لا نحتاج لأي علاجات للأمراض النفسية غيره , ومنها أن المؤمنين لا يمرضون نفسياً وبالتالي فالمرضى النفسيين من هذا المنظور أشخاص ضعاف الإيمان وضعاف الإرادة. ومنها أن كل الاضطرابات النفسية وربما العضوية أيضاً تحدث نتيجة المس الشيطاني وتأثيرات السحر والحسد. والغريب أن هذه الأفكار والالتباسات لم تتسلل إلى عقول العامة والبسطاء فقط وإنما امتدت إلى عقول طبقات المتعلمين والمثقفين وربما العلماء , وأخطر ما في الأمر هو تستر كل هذا خلف الستار الديني المقدس وتلونه بالصفة الدينية ذات المكانة العالية لدى جموع الناس خاصة في مجتمعاتنا العربية والإسلامية , وذلك يجعل من يواجه هذا الركام أشبه بمن يمشي في أرض مليئة بالشوك والألغام. ويصاحب ذلك محاولة استدعاء كل الوسائل العلاجية القديمة التي استخدمت في عهد النبي صلى الله عليه وسلم أو في عهد الصحابة وتطبيقها في موضعها أو في غير موضعها بشكل تعميمي ، وإعطاء هذه الممارسات العلاجية صفة القداسة خاصة حين تنسب إلى الرسول صلى الله عليه وسلم حتى ولو كان النسب ضعيف أو إلى أحد صحابته الكرام , وينظر إلى هذه الوسائل العلاجية على أنها جامعة مانعة وبالتالي فهي تغني عن أي تدخلات طبية حديثة فالحجامة تغني عن كل الممارسات التشخيصية والعلاجية , وحبة البركة تجب كل الأدوية المرصوصة على أرفف الصيدليات , وقراءة القرآن على المرضى النفسيين تمحو كل الاجتهادات البشرية في العلوم النفسية والطب النفسي. والمتأمل للتاريخ الإسلامي لن يجد هذا الإلحاح وهذا الانتشار وربما الهوس حول هذه الأشياء في عهد النبوة أو في عهد الازدهار الحضاري الإسلامي , فلم نسمع أن العرب توافدوا جماعات إلى المدينة للتداوي من أمراضهم على أيدي الرسول صلى الله عليه وسلم أو على أيدي صحابته الكرام , ولم نسمع أن سيدنا عمر كان الناس يقفون على بابه بالآلاف ليقرأ عليهم كي يشفوا من أمراضهم , ولم نقرأ أن سيدنا أبي بكر رضي الله عنه جلس في بيته يستقبل آلاف الناس ليرقيهم ويوزع عليهم كوباً من الماء قد تفل فيه من ريقه ليشربوه وكوباً من الزيت قد تفل فيه أيضاً ليدَهنوا به. وكل ما حدث من ممارسات علاجية كانت اجتهادات في هذا العصر ولم تأخذ الشكل الجامع المانع , لأن الرسول صلى الله عليه وسلم نفسه كان يستخدم وسائل متنوعة في التداوي مثل عسل النحل , وحبة البركة , والحجامة وعصابة الرأس والرقية , ولم يدَع أن هذه الوسائل تلغي ما عداها أو ترقى على ما عداها وإنما كان يرسل المرضى إلى رفيدة الأنصارية تمرضهم أو إلى الحارث بن كلدة ليطببهم , ولو كانت الحجامة أو حبة البركة لها تأثير جامع مانع في كل الأمراض لما لجأ الرسول صلى الله عليه وسلم إلى هذه الوسائل المتعددة بلا حدود ولو كانت قراءة القرآن وحدها على المرضى تشفي كل الأمراض لما لجأ الرسول صلى الله عليه وسلم إلى بقية الوسائل. والمتأمل للوسائل العلاجية المتعددة التي كان يتداوى بها الرسول صلى الله عليه وسلم أو يداوي بها يجد أنها تشمل ما هو مادي وما هو روحي , لذلك فالادعاء بأن الوسائل الروحية فقط ومنها قراءة القرآن تشفي كل الأمراض البدنية والنفسية يصبح مجاوزاً للحقيقة ومجاوزاً للمنهج النبوي نفسه الذي يفتح الباب واسعاً لكل وسائل التداوي المعروفة في ذلك العصر والتي ستعرف في بقية العصور. إذن فما يحدث الآن هو نوع من التفكير الاختزالي الاعتمادي السحري المستسهل والذي يكتفي بما قيل بديلاً لإعمال الفكر والبحث والتنقيب والتجربة والاجتهاد . فنحن في مجتمعاتنا العربية والإسلامية نريد أن نعيش متطفلين على تراثنا الديني وعلى تراثنا الثقافي حتى لا نتعب أنفسنا في دراسة المشكلات الحياتية ومحاولة إيجاد حلول لها وهذا ينطبق على الأمراض وغيرها. والعجيب أن الأطباء المسلمين العظام مثل ابن سينا وابن النفيس والرازي وغيرهم لم يسلكوا هذا المسلك الاتكالي السحري الاستسهالي, فلم نجدهم يبالغون في استدعاء النصوص الدينية لحل المشكلات الصحية التي واجهوها في مرضاهم , وإنما قاموا بالتشريح والتجريب والتحليل والتركيب , وكانوا من الملاحظين والوَصافين العظام في التاريخ للعديد من المظاهر المرضية , ولم نجدهم يبالغون في مسائل الإعجاز الطبي للقرآن وهي حقيقة أو يبالغون في تعميم وسائل علاجية بعينها ويعطوها قداسة دينية , وإنما كانت عيونهم فاحصة ونظراتهم ممتدة (بلا نهاية وعقولهم تعمل كما أرادها الله أن تعمل , ولمْ يتستروا خلف لافتات دينية , ولم يكرسوا قيم السلبية والاعتمادية كما يفعل المعالجون بالقرآن الآن حين يطلبون من كل المرضى أن يستلقوا على ظهورهم ولا يفعلوا أي شيء فالمعالج سوف يفعل كل شيء بالنيابة عنهم لأن المعالج هنا يأخذ دور الأب المقدس والمريض هنا يأخذ دور الطفل الغرير الجاهل, وبالتالي فالمعالج والمريض يبتعدون عن الموقف الموضوعي الراشد في التعامل مع المرض ومع أنفسهم. وهذا الخلل الفكري الذي يقسم المجتمع إلى آباء مقدسين وملهمين وأبناء أطفال جاهلين وسفهاء واعتمادين ينتقل من الموقف العلاجي السائد في مجتمعنا إلى مواقف حياتيه أكثر اتساعاً. ونحن حين نتعامل مع القرآن على أنه مجرد مسكن موضعي أو وسيلة راحة فإننا نختزل قيمته العظيمة ونتغاضى عن رسالته العظيمة في تنظيم حياتنا الفردية وحياتنا الجماعية بما يحقق التوزان والتناغم مع الكون الأوسع ليس في الدنيا فقط وإنما في الدنيا والآخرة ، والقرآن يعطينا طمأنينة وراحة على مستويات متعددة نذكر منها :

1ـ المستوى الأول ـ الطمأنينة لمجرد سماعه حتى دون فهم وتدبر , فالتراكيب اللفظية والإيقاعات الصوتية المعجزة تجعلنا في حالة هدوء واسترخاء 0

2ـ المستوى الثاني ــ الإحساس بوجود الله : { الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ } الرعد : 28 0 ذلك الإحساس الذي يجعلنا نشعر أننا لسنا وحدنا في هذه الحياة وأن هناك قوة عظيمة وهائلة تساندنا وتحمينا وترعانا , وأن حياتنا البسيطة المحدودة ليست نهاية الكون وإنما هناك امتدادات وآفاق هائلة في المكان والزمان وبهذا ننتقل من ضيق الأفق البشري إلى اتساع ولا نهائية ملك الإله الأعظم وقدرته 0 وفي هذا تخفيف لحدة الكرب الذي نحياه بسبب ضغوط الحياة المختلفة واضطراب توافقنا مع الناس والأشياء 0

3ـ المستوى الثالث ــ التنظيم النفسي الفردي الذي يحقق التوازن بين كافة الاحتياجات والرغبات والدوافع فلا تطغى حاجة على أخرى ولا تلغي رغبة قيمة ولا ينفرد دافع متضخم بتحريك الشخصية لحسابه 0 ذلك التوازن النفسي الداخلي يتحقق بتبني المفاهيم القرآنية الصحيحة على المستوى الداخلي 0 قال تعالى : { وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارا } الإسراء 0

4ـ المستوى الرابع ــ التنظيم الجماعي على المستويات السياسية والاقتصادية والاجتماعية ذلك التنظيم الذي يحقق الشورى والعدل والتكافل الاجتماعي فيخفض بذلك من نزعات الغضب والقلق والحقد والكراهية , أي يحقق الطمأنينة الجماعية 0

5ـ المستوى الخامس ــ التناغم الكوني , فالإنسان على مستواه الفردي والجماعي هو جزء من كون واسع خلقه الله وسيره على ناموس دقيق , فإذا استوعب الإنسان القرآن وسار على منهجه الصحيح فإنه يتناغم في حركته مع الكون الأوسع 0

6ـ المستوى السادس ــ السعي نحو الله وهو قمة الطمأنينة : { يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ () ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً () فَادْخُلِي فِي عِبَادِي () وَادْخُلِي جَنَّتِي }الفجر 0 لأن النفس البشرية مفطورة على الشوق إلى لقاء الله خالقها ومبدعها لذلك فكلما اتجهت إليه شعرت بالأمان والطمأنينة وكلما ابتعدت عنه نتيجة تشوه الفطرة شعرت بالضيق والقلق والخوف ومن يعرض عن ذكر الله نجعل صدره ضيقاًَ حرجاً كأنما يصعّد في السماء أو تهوي به الريح في مكان سحيق 0 وهذه المستويات من الطمأنينة ليست عامة لكل الناس , فالقرآن يؤثر في النفوس وفي الجماعات حسب استقبالها له : { وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَاراً } الإسراء:82 0

وفي سورة فصلت بيان لاختلاف تأثير القرآن باختلاف المتلقي وطريقة تلقيه قال تعالى : { قل هو للذين آمنوا هدىً وشفاء والذين لا يؤمنون في آذانهم وقرُُ وهو عليهم عمىً } فصلت 44 0 وفي سورة الإسراء يقول تعالى : { وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ حِجَاباً مَّسْتُوراً () وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْراً وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْاْ عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُوراً } الإسراء 0 إذن فالقرآن يصبح شفاءً لمن يؤمن به ولمن يفقهه ولمن يعمل به , ومن هنا فمن لا يؤمن به لا يستفيد منه بل هو يزداد خسارة عند سماعه لأنه ينفر منه ويصبح ذلك حجة عليه , ومن لا يفقه القرآن ولا يعمل به ستتوقف استفادته عند الحدود الدنيا 0 والمريضالنفسي الذي يعاني من الفصام أو الاكتئاب أو أي مرض نفسي أخر يكون لديه اضطراب في كيمياء المخ ربما يؤدي إلى خلل في استقباله للقرآن فكأنه لا يسمعه أو يسمعه ولا يفهمه , أو يفهمه بشكل مرضي متأثراً بوساوسه القهرية أو ضلالاته أو هلاوسه المرضية , ولذلك نجد بعض المرضى النفسيين يتألمون أو ينفرون أو يعرضون حين يسمعون القرآن , وهم ليسوا مؤاخذين على ذلك لأنهم في أوضاع غير سوية تؤثر في إدراكهم واستقبالهم: فالمريض الاكتئابي مثلاً قد ينفر من أعز أبنائه ويضيق بالأشياء التي كان يعشقها ولذلك حين نرى ضيقه بسماع القرآن أو قراءته لا نحكم عليه بكراهية القرآن أو النفور منه لأنه يعيش ظروفاً استثنائية ترفع عنه الحرج في الكثير من الأشياء. والمريض الذهاني لا يفهم ما يسمع أو يفهم بطريقة مشوهه نتيجة اضطراب إدراكه وتفكيره . والمعالجون بالقرآن لا يراعون هذه الخصوصيات وهذه الفروق في العملية الإدراكية وفي عمليات الاستقبال للقرآن فهم يفرضونه قهراً على كل المرضى الذين يقصدونهم دون مراعاة لظروفهم النفسية وحالاتهم الوجدانية واستعداداتهم للتلقي فضلاً عن الفهم والعمل. وهناك احتمالات تقديس المعالج بالقرآن والارتكان إلى بركاته وكراماته وقدراته الهائلة في دفع المرض ودفع القوى الخفية كالجن والسحر والحسد , وفي هذا خطر شديد على الاعتقاد الديني للشخص حيث يتوجه إلى بشر ضعيف مثله طالباً الخلاص على يديه وخطر شديد أيضاً على اتجاهاته النفسية حيث يميل إلى الاعتمادية الطفلية السلبية ويسلم نفسه لمعالج يدَعي القدرة على امتلاك السر الأعظم من القرآن وتطويعه بشكل خفي لعلاج كل الأمراض ضارباً عرض الحائط بقانون الأسباب والمسببات الذي وضعه الله لحركة هذا الكون ولحياة البشر فيه من خلال وسائل نوعيه قائمة على المناهج العلمية الصحيحة. كل هذه الاعتبارات تجعلنا نأخذ موقفاً واعياً تجاه هذه الظاهرة التي تضع القرآن في غير موضعه وتختزل رسالته العظيمة في الهداية والإصلاح , وأيضاً تكرس لكل معاني التغييب الحضاري والتثاؤب التاريخي والاعتماد السلبي 0

• موقف الإسلام من التداوي بالعقاقير نفسية التأثير :

ما يزال الناس في بلادنا العربية والإسلامية متحفظين تجاه الطب النفسي ، والطبيبالنفسي ، والعقاقير النفسية ، تحفظًا يختلفُ اختلافا كبيرا عن تحفظهم تجاه أي من تخصصات الطب الأخرى أو عقاقير العلاج المستخدمة فيها بما في ذلك علاج ما لا علاج له ـ في أغلب الأحيان - كالأمراض الفيروسية أو الأورام الخبيثة... إلخ 0 على عكس معظم عقاقير الأمراض النفسية التي تعطي فائدةً لا تقبل الجدل في أغلب الأحيان 0 فأما التحفظ تجاه الطب النفسي فبسبب أمورٍ تتعلقُ بما يلزمُ المسلمَ بطلب العلاج من المرضالنفسي ، مثلما يلزمه بطلبه في حالة المرض العضوي ، وهي أمورٌ تتعلقُ بموقف الإسلام من الطب عامةً ثم بموقفه من الطب النفسي خاصةً ، ثم بموقفه من استخدام عقاقير العلاج النفسية التأثير 0

• موقف الإسلام من الطب ومن طلب العلم:

يعتبرُ حفظ الإنسان لنفسه جسدا وروحا ، من بين ما أوجب الإسلام على الإنسان الالتزام الحثيث به ، فجعل على المسلم أن يمد نفسه بوسائل الإبقاء على حياته من تناول للطعام والشراب وتوفير اللباس والمسكن ، ويَحْرُمُ على المسلم أن يمتنع عن هذه الضروريات إلى الحد الذي يهدد بقاء حياته ، كما أوجب الإسلام على الإنسان - إذا وجد نفسه مهددة - أن يدفع عن نفسه الهلاك بما في ذلك المرض الذي يصيب الجسد أو النفس - أو كلاهما معا كما نرى في الغالب مع مرضانا كأطباء ، ونراه دائما أبدًا إذا نحن أحسنا الرؤية - فرأينا مرض الجسد يؤثر في النفس ومرض النفس يؤثرُ في الجسد ، بحيث أن الفصل بين النفس والجسد غير ممكن واقعا ، وبحيث يصدق في علاقتهما قول سيد الخلق صلى الله عليه وسلم : { مَثَل المؤمنين في توادِّهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد، إذا اشتكى منه عضوٌ تداعى سائر الجسد بالسهر والحمى } 0 ولنلحظ هنا حين نتأمل كلمات الحديث الشريف، أنه بينما تصيب الحمى الجسد فإن السهر لا يفصل بينهما ، كذلك حرم الإسلام قتل النفس سواء قتل الإنسان نفسه أو قتله غيره قال الله تعالى : { وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً } النساء 0 بل بالغ الإسلام في تجريم قتل النفس فاعتبر قتل نفس واحدة: بمثابة قتل الناس جميعا، قال تعالى: { مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً} المائدة 0

وقال سيد الخلق عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم : ( إن لزوجك عليك حقا وإن لربك عليك حقا وإن لبدنك عليك حقا وإن لضيفك عليك حق فأعطى كل ذي حق حقه )0 وحينما رأى النبي صلى الله عليه وسلم أن من أصحابه من يغالي في ناحية من النواحي ، زجره، كما حدث لعبد الله بن عمرو بن العاص ، فقد كان يصوم ولا يفطر، ويقوم فلا ينام ، وترك امرأته وواجباته الزوجية 0 فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : (يا عبد الله إن لعينك عليك حقًا ، وإن لأهلك عليك حقًا ، وإن لزوجك عليك حقًا ، وإن لبدنك عليك حقًا ، فأعط كل ذي حق حقه) 0 وفي ضوء هذا نستطيعُ أن نفهمَ سببَ إعلاء المسلمين من شأن علم الطب، حتى أن داود الأنطاكي يقول في مقدمة كتابه ( التذكرة ) : ليس هناك علم من العلوم يستغنى عن علم الطب أصلا ، لأن اكتساب العلوم لا يتم إلا بسلامة البدن والحواس والعقل وهذا الرأي إن دل على شيء فإنما يدل على أن أطباء الإسلام كانوا واثقين بعلمهم ثقة لا حد لها ، مدركين لأهميته في حياة الإنسان ، وكان أطباء الإسلام إلى جانب ما تقدم حريصين كل الحرص على تأصيل أخلاقيات معنية استمدوها من الإسلام لعلم الطب وممارسته . ونجدُ الطبَّ الغربيَّ (الماديَّ الحديث) في المقابل ظل يتعاملُ مع الجسد البشري على أنهُ مجموعةٌ من الأعضاء المنفردة تتحكمُ فيها المادة كلا وجزءًا ، وهم أنفسهم قاموا بتهميش دور الحالة النفسية مغترين بما وضعوا أيديهم عليه من عقاقير خاصةً في بدايات القرن العشرين ، إلى أن بدأت الصيحات تتعالى في الخمسينات لتشدد على ضرورة اعتبار الإنسان وحدةً نفسيةً ماديةً اجتماعية ، وأن العوامل النفسية والاجتماعية مهمةٌ جدا حتى في حالة الأمراض الانتقالية أو المعدية وهي التي كان الغرور باكتشاف المضادات الحيوية يجعل الكثيرين يرونها مسألةً عضويةً مائة بالمائة ، أي أن الطب الغربي وصل في النصف الثاني من القرن العشرين إلى صحة ما كانَ يقولُ به الأطباء المسلمون لأنهم تعلموه من دينهم 0 والمسلم مطالبٌ بطلب العلم بوجهٍ عام ، وقد ورد في الحديث طلب العلم فريضة على كل مسلم) رواه ابن ماجة وغيره وهو حديث صحيح بمجموع طرقه 0 ومفهوم العلم في الإسلام يختلف عن مفهومه في أي ديانة فهو لا يقتصر على اللاهوت ، ومن الأدلة على أن العلم في الإسلام غير محدود بحد معين قول الرسول صلى الله عليه وسلم في رواية تأبير النخل المشهورة : ( أنتم أعلم بشئون دنياكم) فهذا يفتح الباب واسعا أمام العقل ليستنبط من أنواع العلوم ما لا حصر له ، ومنها علم الطب والتداوي ، وقد صرح أطباء المسلمين وفلاسفتهم بأن النصوص الدينية كانت وراء إقبالهم على تعلم الطب والنبوغ فيه ، وتأمل المعنى فيما يتوله الذهبي في الطب النبوي: "وقد تقدم قوله عليه السلام: "إن الله لم ينزل داء إلا وله دواء"، قلنا: إن ذلك يقتضي تحريك الهمم وحث العزائم على تعلم الطب"، خاصةً وأن الإنسان"مجبولٌ على صيانة نفسه" كما قال بعض أطباء المسلمين -وقرأته في الطب النبوي-، فإذا كان ذلك الإنسان سليم الفطرة فإنه لابد سيكافح من أجل صيانة نفسه، وبالتالي فإن الدين المناسب لمثل ذلك الإنسان لابد أن يكونَ معينا له على ذلك بل وآمرا له به كما فعل الإسلام بحق، فكلما كان المسلم ملتزما إذن، كلما كان التزامه بصيانة نفسه أكبر . ولما كان من الواضح أن انتهاجنا كأطباء نفسيين مسلمين لمنهج الغرب لم يحقق نجاحا يمس به المجتمع لأن المجتمع المسلم بطبيعته لا يستطيع إغفال العلاقة بين توافق الفرد مع دينه وربه وبين ما يحسهُ من أمن نفسي، فإن الأجدر بنا أن نتواصل مع جذورنا نحن لكي نستطيع التأثير في مجتمعاتنا بشكل يفيدُ ويثمر، والحقيقة أن اختلافاً جوهريًّا يوجدُ في تناول موضوع الصحة النفسية ما بين علماء وأطباء النفس الغربيين وبين العلماء والمفكرين المسلمين (السابقين)، فعلماء الغرب يرون أن أهمَّ مقوِّمات الصحة النفسية هي فقط النجاح في حياة الإنسان المادية والدنيوية وقدرته على تحمل مسئوليات الحياة ومواجهة ما يقابله من مشكلات، وتوافقه مع نفسه ومع غيره من الناس، ويغفلون ما غير ذلك إغفالاً تاما وأما علماء المسلمين وأطباؤهم فكانوا يرون أن أهم مقومات الصحة النفسية هي توافق الفرد مع ربه وتمسكه بعبادته وتقواه سبحانه وتعالى، ذلك أن الإسلام حينما جاء بالتوازن بين الحياة الروحية والحياة الجسدية والحياة العقلية . فالإنسان ـ كما يتصوره الإسلام ـ جسد وعقل وروح0 إلزام الشرع للمريض بطلب العلاج :

من الثابت تاريخيا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأمر أصحابه بعرض أنفسهم علي الحارث بن كلدة ، وكان الحارث طبيب العرب والعجم ، وفي الطب النبوي لابن القيم: يذكر عن النبي صلى الله عليه وسلم "أنه عاد سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه بمكة، فقال : ادعوا له طبيباً ، فدعي الحارث بن كلدة ، فنظر إليه ، فقال : ليس عليه بأس، فاتخذوا له فريقة ، وهي الحلبة مع تمر عجوة رطب يطبخان ، فيحساهما، ففعل ذلك، فبرئ" ، كما كان صلي الله عليه وسلم يسمح للنساء بالتطبيب ، وخدمة الجرحى (التمريض) وقد جعل صلي الله عليه وسلم سعد بن معاذ في خيمة لامرأة يقال لها رفيدة في مسجده كانت تداوى الجرحى ، وكذلك كانت أخت لها تسمى كعبة بنت سعيد الأسلمية تعالج الجرحى ، وقد روى عن أسامة بن شريك قال : ‏جاء أعرابي فقال : يا رسول الله أنتداوى ؟ قال : ( نعم فإن الله لم ينزل داء إلا أنزل له شفاء علمه من علمه وجهله من جهله)‏ 0 ‏قالت الأعراب : يا رسول الله ألا نتداوى ؟ قال : ( نعم عباد الله تداووا ، فإن الله لم يضع داء إلا وضع له شفاء أو دواء إلا داء واحدًا ، قالوا: يا رسول الله وما هو قال :الهرم)‏ 0 رواه ابن ماجه وأبو داود والترمذي وصححه ، وفي رواية للطيالسي ‏عن أسامة بن شريك أيضًا عباد الله ، وضع الله الحرج إلا امرأ اقترض امرأ ظلما فذاك يحرج ويهلك ، عباد الله تداووا فإن الله تعالى لم يضع داء إلا وضع له دواء إلا داء واحدا‏‏:‏‏ الهرم) وجاء في الصحيحين أنه صلى الله عليه وسلم قال : ( لكل داء دواء فإذا أصاب الداء برأ بإذن الله عز وجل ) رواه البخاري ومسلم 0 فعلى المريض أن يتخذ الأسباب الدنيوية للعلاج أن يلجأ إلى الله سبحانه ويدعوه ويطلب منه الشفاء ، ويقول الأزرقي : روى كذلك أن عمر بن الخطاب قال : أرسلوا إلى الطبيب ينظر جرحى فأرسلوا إليه 0

وبرغم ذلك هناك مشكلةٌ ما تزال حتى يومنا هذا تشغل بال المتدينين من كل دين سماوي ، مثل هل من حق الطبيب أن يتصدى للظواهر المرضية في مريضه باعتبارها أقدارا تصيبه والله وحده يقررُ مصيرها، وقد دار بحث دقيق بين علماء الإسلام حول الطب والتداوي (استعمال الدواء) من حيث موافقته أو معارضته لقضاء الله ، وبناءً على الخلفية السابقة من أمر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ، ذهب أطباء الإسلام إلى القول : بأن الطب والتداوي لا يعارضان قضاء الله ، كما أكدوا على أن الإسلام نفسه يدعو إلى الإيمان بالأسباب والمسببات ، ومن ينكر الأسباب فهو كافر ، حيث يقول الأزرقي في كتابه تسهيل المنافع : "وقد ثبت أن الله عز وجل وضع في أشياء خواص ، فمن أنكرها فهو كافر، ومن قال : لا فائدة في الطب فقد رد على الواضع والشارع ، فلا يلتفت إلى قوله ، وإنما يراد بالطب التسبب إلى دفع ضرر وإجلاب نفع" ويرد الأزرقي علي من قال إن التداوي خروج عن الرضا بقضاء الله قائلا إن من الرضا بقضاء الله التوصل إلى محبوباته بمباشرة ما جعله الله مسببا، فليس للعطشان أن لا يريد الماء زاعما الرضا بالعطش الذي قضى الله به". ومن الواضح أن العقيدة الإسلامية كانت واضحة في ذلك الموقف الحاسم من الطب ، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( من تعلم علماً مما يُبتغى به وجه الله تعالى ، لا يتعلّمه إلا لُيصيب عًرًضاً من الدنيا لم يجد عرف الجنّة يوم القيامة ) رواه أبو داود 0 فأي علمٍ أنبل من الطب ومداواة الناس يبتغى به وجه الله؟ وينسبُ -على سبيل المثال- إلى الإمام الشافعي قوله "لا أعلم علما بعد الحلال والحرام أنبل من الطب"، ومن المعروف أن فلاسفة المسلمين فصلوا في قضية الطب منذ بواكير الفلسفة الإسلامية، ويثبتُ التاريخ لنا كيف حاول الأكاديميون اللاهوتيون المسيحيون محاجاة ابن سينا وابن رشد في مذهبهما من عدم منافاة طلب العلاج والتداوي للتوكل على الله 0

النظرية الثانية : نظرية الإرشاد العقلاني الانفعالي السلوكي :

• نبذة عن صاحب النظرية :

هو ألبرت إليس Albert Ellis وقد ولد في مدينة بيتسبيرنج بولاية بينسلفانيا بالولايات المتحدة الأمريكية عام 1913م ، وقد حصل على شهادة البكالوريوس من جامعة ستي في نيويورك عام 1943 م ، و حصل شهادة الماجستير عام 1943 م ، وشهادة الدكتوراه عام 1947م ، وكلتا الشهادتين حصل عليها من جامعة كولومبيا Columbia University وبدأ يمارس عمله في مكتب خاص في مجال الزواج والأسرة ، وتقلد وظائف كثيرة لفترات قصيرة ومنها :

1ـ أخصائي نفسي إكلينيكي في عيادة الصحة العقلية الملحقة بمستشفى المدينة 0

2ـ رئيس للأخصائيين النفسيين في قسم المعاهد والمؤسسات في نيوجرسي 0

3ـ مدرس بجامعة روتجرز ثم جامعة نيويورك 0

وكان يمارس معظم حياته المهنية في عيادة خاصة به 0 ( العزة وآخرون ، 1999 ) 0

وبدأ عمله بالتحليل النفسي ، وفي بداية الخمسينات بدأت قناعة إليس وثقته في التحليل النفسي في الهبوط ، مما دفعه إلى البحث عن طريق له في المدرسة الفرويدية الحديثة ، ومنها بدأ بحثه في العلاج النفسي الموجه بالتحليل ، إلا أنه لم يشعر بالرضا عن هذه المدارس العلاجية وأصبح أكثر ميلا لكل حركة جديدة في مجال العلاج النفسي ، فزاد اهتمامه بنظرية التعلم والإشراط ، واكتشف أن سلوكيات مرضاه ليست نتيجة مطلقة للتعلم ، وإنما بدا له أن سلوكهم هو نتيجة للاستعدادات الاجتماعية البيولوجية للإبقاء على أفكار واتجاهات غير منطقية 0 وفي عام 1954 بدأ ( إليس ) طريقة نحو أسلوب منطقي للعلاج النفسي ، وذلك تأسيسا على نموذج نفسي ، وقد بدأ الكتابة عن أسلوبه الجديد في العلاج النفسي وهي عبارة عن سلسلة من المقالات منذ عام 1962 عندما نشر كتابه ( السبب والانفعال في العلاج النفسي ) ، ( الشناوي ، 1994 ) 0

وما قدمه ( إليس ) يعتبر محاولة لإدخال المنطق والعقل في الإرشاد والعلاج النفسي ، وقد أسماه ( إليس ) أول الأمر ( العلاج النفسي العقلاني Rational Psychotherapy ) ، وهو علاج مباشر موجه يستخدم فنيات معرفية وانفعالية لمساعدة العميل أو المسترشد لتصحيح معتقداته غير العقلانية التي يصاحبها خلل انفعالي وسلوكي إلى معتقدات عقلانية يصاحبها ضبط انفعالي وسلوكي 0 ( زهران ، 2001 ) 0

ويذكر ( عادل ، 2000 ) أن ( إليس ) قد أرسى اتجاها علاجيا آخر وهو العلاج العقلاني وكان في عام 1955 ، والذي زيد له في عام 1961 مصطلح ( الانفعالي ) ثم زيد له عام 1993 مصطلح ( السلوكي ) ليصبح مسماه ( العلاج العقلاني الانفعالي السلوكي ( REBT ) ويرى من خلاله أن سلوكيات المرضى تنتج عن أفكار واتجاهات لا منطقية 0

• الافتراضات الرئيسية للنظرية :

1ـ النظرة للإنسان :

حيث تركز نظرة ( إليس ) في العلاج العقلاني الانفعالي ، للإنسان في أن هناك تشابكا بين العاطفة والعقل ، أو التفكير والمشاعر 0 ( الشناوي ، 1994 ) 0

حيث يميل البشر إلى أن يفكروا ويتعاطفوا ويتصرفوا في وقت واحد ولذلك فإنهم ذو رغبة وإدراك وحركة ، وهم نادرا ما يتصرفون بدون إدراك ما دامت أحاسيسهم أو أعمالهم الحالية يتم فهمهما في شبكة من التجارب السابقة والذكريات والاستنتاجات ، وهم نادرا ما يتعاطفون دون تفكير ما دامت مشاعرهم محددة بموقف معين وبأهميته ، وهم نادرا ما يتصرفون دون التفكير والتعاطف ما دامت هذه العمليات تزودهم بأسباب للتصرف ، كما أن سلوكهم هو وظيفة لتفكيرهم وتعاطفهم وعملهم 0 ( الزيود ، 1998 ) 0

ويقوم العلاج العقلاني الانفعالي على بعض التصورات والافتراضات ذات العلاقة بطبيعة الإنسان ، والتعاسة والاضطرابات الانفعالية التي يعاني منها ، وهذه الافتراضات هي :

أ ـ أن الإنسان عقلاني في آن واحد وهو عندما يفكر ويتصرف بشكل عقلاني فإنه يكون فعالا وسعيدا ونشطا 0

ب ـ التفكير غير العقلاني متعلم منذ سن مبكرة لدى الطفل من الأسرة وثقافة المجتمع الذي يعيش فيه 0

ج ـ الفكر والانفعال توأمان مترابطان ومتداخلان ، ويؤثر كل منهما في الآخر ، والتفكير والانفعال والسلوك أضلاع مثلث واحد تصاحب بعضها بعضا تأثيرا وتأثرا 0

د ـ الإنسان يعبر عن فكره رمزيا ولغويا ، وكل من الفكر والانفعال يتضمنان ، الكلام مع الذات في شكل جمل مستدخلة Internalized Sentences ، وإذا كان الفكر مضطربا صاحبه انفعال مضطرب ، وكأن الفرد يحدث نفسه دائما بالفكر غير المنطقي ، ويترجمه في شكل سلوك مضطرب 0

هـ ـ ينبغي مهاجمة الأفكار والانفعالات السلبية أو القاهرة للذات ، وذلك بإعادة تنظيم الإدراك والتفكير بدرجة يصبح معها الفرد منطقيا أو عقلانيا 0

و ـ إن الاضطراب الانفعالي النفسي هو نتيجة للتفكير غير العقلاني وغير المنطقي ، وفي الواقع أن الانفعال إنما هو تفكير متحيز ذو طبيعة ذاتية وعالية وغير منطقية 0

وقد حدد (إليس ) إحدى عشرة فكرة لا عقلانية وغير منطقية ( في المجتمع الغربي ) تؤدي للعصاب ، وهي :

1ـ أنه من الضروري أن يكون الإنسان محبوبا من الجميع ومؤيدا من الجميع فيما يقول ، وما يفعل ، بدلا من التأكيد على احترام الذات ، أو الحصول على التأييد لأهداف محددة ، كالترقية في العمل مثلا ، أو تقديم الحب بدلا من توقع الحب 0

2ـ إن بعض تصرفات الناس خاطئة أو شريرة أو مجرمة ، وأنه يجب عقاب الناس الذين تصدر عنهم هذه التصرفات عقابا شديدا ، بدلا من الفكرة أن بعض التصرفات الإنسانية غير ملائمة أو لا اجتماعية ، وأن الناس الذين تصدر هذه التصرفات أغبياء أو جهلة أو مضطربون انفعاليا 0

3ـ إن الحياة تصبح مرعبة ولا تطاق إذا لم تسر الأمور كما نشتهي ونتمنى 0 وهذا تفكير غير عقلاني لأنه من الطبيعي أن يتعرض المرء للإحباط ، ولكن غير الطبيعي هو أن ينتج عن هذا الإحباط حزن شديد ومستمر ، ولذا فإن المواقف غير السارة قد تكون مؤدية إلى الاضطراب ولكنها ليست مفزعة ولا تمثل نكبة ، إلا إذا نظر المرء إليها على هذا النحو 0

4ـ إن سبب الصعوبات النفسية التي يواجهها الإنسان هي الظروف الخارجية التي لا يستطيع الإنسان التحكم بها أو السيطرة عليها 0 وهذا تصور خاطئ كما يقول ( الشناوي ، 1994 ) لأن الشخص الذي على درجة من الذكاء يعرف أن التعاسة تأتي بدرجة كبيرة من داخله ، وأنه بينما يهتز الفرد أو يتضايق بفعل الأحداث الخارجة عنه ، فإنه يعترف بأن استجاباته يمكن أن تتغير عن طريق تغيير تصوراته وتعبيراته الداخلية عن هذه الأحداث 0

5ـ إن على الإنسان أن ينشغل ويهتم بالأشياء المخيمة أو الخطرة ، وأن يشعر بضيق شديد 0 ويقول ( زهران ، 2001 ) : " أن هذا غير معقول ، لأن القلق يحول دون التقييم الموضوعي لاحتمال حدوث الخطر ، ويهيئ لحدوثه ، ويعوق إمكانات التعامل معه إذا حدث ، بل ويضخم الخطر ، والإنسان العقلاني يعرف أن الخطر قد يحدث ، ولكنه خطر يمكن مواجهته والتصدي له والتقليل من آثاره السيئة ، وهو ليس كارثة تخاف 0

6ـ إن من السهل على الإنسان أن يتجنب مواجهة صعوبات الحياة والمسؤوليات الشخصية لا أن يواجهها ويحاول تنظيم ذاته 0 وهذا التفكير غير منطقي ، كما يقول ( الشناوي ، 1994) لأن تجنب القيام بواجب ما ، يكون غالبا أصعب وأكثر إيلاما من القيام به ويؤدي فيما بعد إلى مشكلات وإلى مشاعر ، وعدم رضا بما في ذلك عدم الثقة بالنفس ، كذلك فإن الحياة السهلة ليست بالضرورة حياة سعيدة ، فالشخص العاقل يقوم بما ينبغي عليه القيام به دون تشكي 0

7ـ يجب أن يعتمد الشخص على أشخاص آخرين أكثر خبرة ، ليساعدوه على تحقيق أهدافه بنجاح 0 ولكن بشرط ألا يؤدي ذلك إلى فقدان الاستقلال الذاتي والفردية ، ومن ثم الاعتماد على الآخرين الذي يسبب إخفاقا في التعلم ، ويجعل الفرد تحت رحمة أولئك الذين يعتمد عليهم ، والشخص العاقل يسعى إلى الاستقلالية 0

8ـ يجب أن يكون الفرد فعالا ومنجزا بشكل يتصف بالكمال ، حتى تكون له قيمة ، وهذه الفكرة من المستحيل تحقيقها بشكل كامل ، كما يقول ( الشناوي ، 1994 ) وإذا أصر الفرد على تحقيقها فإن ذلك ينتج عنه اضطرابات نفسية جسمية ، وشعور بالنقص وعدم القدرة على الاستمتاع بالحياة الشخصية ، كما يتولد لديه شعور دائم بالخوف من الفشل 0 أما الشخص العاقل والمنطقي فإنه يفعل ذلك انطلاقا من مصلحته ، وليس من منطلق أن يصبح أفضل من الآخرين 0

9ـ تقرر الخبرات والأحداث الماضية سلوكنا الحاضر ، وأن تأثير الماضي لا يمكن محوه أو تجاهله 0 وفكرة ( إليس ) هذه يقول عنها ( الشناوي ، 1994 ) : " إنها غير عقلانية ، فالسلوك الذي كان في وقت ما يبدو ضروريا في ظروف معينة قد لا يكون ضروريا في الوقت الحالي ، إلا أن الشخص المتعقل يعترف بأن الماضي جزء هام في حياتنا ، ولكنه يدرك أيضا أنه من الممكن تغيير الحاضر عن طريق تحليل الماضي ، وتمحيص الأفكار المكتسبة ذات التأثير الضار ، ودفع نفسه إلى التصرف بطريقة مختلفة في الوقت الراهن 0

10ـ ينبغي أن ينزعج الفرد لما يصيب الآخرين من مشكلات واضطرابات ، والعقلاني يفكر ثم يقرر إذا كان سلوك الآخرين يستحق الانزعاج ، ويحاول أن يفعل شيئا ليخلص الآخرين منه 0

ويقرر ( الشناوي ، 1994 ) أنه لا يجب أن ينشغل الفرد بمشكلات الآخرين ، وألا تسبب له ضيقا وهما ، وحتى عندما يؤثر سلوك الآخرين في فرد ما فإن هذا يحدث من منطلق تحديد الفرد وإدراكه لآثار هذا السلوك 0

11ـ هناك حل مثالي وصحيح لكل مشكلة ، وهذا الحل لا بد من إيجاده ، و إلا فالنتيجة تكون مفجعة 0 و لكن الشخص العقلاني لا بد أن يبحث في جميع الحلول المختلفة المتنوعة للمشكلة ويقبل الحل الأفضل منها ، مدركا أنه لا توجد حلول كاملة 0

ويقال أن ( إليس ) قد أوصل هذه الأفكار اللاعقلانية إلى ثلاث عشرة فكرة في السنوات الأخيرة من عمره 0 حيث يرى أنه عندما يقبل الأفراد هذه الأفكار ويدعمونها بما يحدثون به أنفسهم فإنها تقودهم إلى الاضطرابات الانفعالية ، أو العصاب حيث أنهم لا يستطيعون العيش معها 0 وعلى حين أن الصواب قد حالف أتباع مدرسة فرويد ( التحليل النفسي ) من الإشارة إلى الآثار التي تلعبها الطفولة المبكرة بالنسبة للاضطرابات الانفعالية ، كما أن الخبرات المبكرة ليست وحدها هي التي تسبب الاضطراب الانفعالي ، وإنما هي اتجاهات وأفكار الفرد حول هذه الخبرات ، التي تتولد عن الأفكار غير المنطقية هي التي تسبب الاضطراب 0

ويذكر ( عادل ، 2000 ) أن ( إليس ) قد قسم تلك الأفكار اللاعقلانية إلى ثلاث مجموعات ، تضم المجموعة الأولى الأفكار التي تتعلق بالفرد 0 وتضم المجموعة الثانية ما يتعلق بالآخرين0 وتضم المجموعة الثالثة ما يتعلق بالعالم وظروف الحياة 0 وقد سميت تلك المجموعات بالإلزاميات أو الحتميات الثلاث 0

• الإلزاميات أو الحتميات الثلاث :

وقد أشار ( إليس ) في كتاباته إلى أن الأفكار والمعتقدات اللاعقلانية التي يعبر عنها العميل ويعتنقها ، تندرج تحت ثلاث إلزاميات أو حتميات أساسية وهي :

1ـ المطالب المتعلقة بالذات : هذه المطالب تظهر في عبارات مثل :

أ ـ إنني شخص غير كفء ، وليس لي أي أهمية 0

ب ـ إنني يجب أن أعمل بطريقة جيدة ، وأنال استحسان الآخرين المهمين من حولي 0

2ـ المطالب المتعلقة بالآخرين : وتظهر من خلال عبارات مثل :

أ ـ يجب أن يكون الآخرون من حولي ظرفاء ، وتحت كل الظروف وطوال الوقت 0

ب ـ يجب عليك أن تعاملني برفق وبعدل في كل الأحوال 0

3ـ المطالب المتعلقة بالعالم وظروف الحياة : وتنعكس من خلال العبارات التالية ، وهي غالبا ما تأخذ شكل الاعتقادات التالية :

أ ـ إن ظروف الحياة أقل من تلك الحياة التي يجب أن أعيش فيها تماما 0

ب ـ إنني لا أستطيع تحمل ظروف الحياة 0



• نظرية ( A . B . C ) :

يقرر ( إليس ) في نظريته أن الأحداث التي تطرأ على البشر تتضمن عوامل خارجية تمثل أسبابا ، ولكن البشر ليسوا مسيرين كلية ، وبإمكانهم أن يتجاوزوا جوانب القصور البيولوجية والاجتماعية والتفكير الصعب ، ويتصرفوا بأساليب من شأنها أن تغير وتضبط المستقبل 0 وهذا الاعتراف بقدرة الفرد على التحديد في الجانب الحسن لسلوكه الذاتي ولخبرته الانفعالية يعبر عنها في نظرية ( A.B.C ) 0 حيث يرى أنه حينما تتبع نتيجة مشحونة انفعاليا ( C ) حدثا منشطا له دلالة ( A ) فإن ذلك الحدث قد يبدو أنه هو السبب في تلك النتيجة ، ولكن ليس كذلك في الحقيقة ، وإنما اعتقادات الفرد ( B ) هي التي تسبب تلك النتائج الانفعالية ( C ) 0 ( عادل ، 2000 ) 0

ويوضح ( إليس ) نظرية ( A.B.C ) مستعينا بالمثال التالي :

رجل قضى يوما سيئا في العمل ، فقد وصل متأخر إلى مقر عمله وكان قد نسي مفاتيح مكتبه ، وسقط من يده فنجان القهوة على سطح مكتبه ، ونسي موعدي عمل هامين ، قد يفكر : ( لقد كان عملي سيئا جدا اليوم ) وهو على حق في هذا ، وذلك هو ما يسميه ( إليس ) الحدث المنشط ( A ) أي حدث غير مرغوب يبعث على الضيق ، ثم يقول لنفسه بعد ذلك : ( هذا أمر فظيع ، وإذا لم أصلح أمري فسوف أفصل من عملي ، وهذا هو ما أستحقه لتفاهتي ) وتعكس هذه الأفكار نظام معتقدات الشخص ( B ) وينتج عنها أو هي تفسر العواقب الانفعالية ( C) والتي تتمثل في القلق والاكتئاب والشعور بالتفاهة 0 وطبقا لهذه النظرية فإن المشكلات السلوكية لا تنتج عن ضغوط خارجية ، ولكن عن أفكار لا عقلانية يتمسك بها الشخص وتؤدي به إلى أن يملي رغباته ويصر على الاستجابة لها لكي يكون سعيدا 0 ( مليكه ، 1990 ) 0

وقد أوضح ( زهران ، 2001 ) أن رموز النظرية تشير إلى المعاني التالية :

ـ الحرف ( A ) يرمز إلى الحدث الذي يؤثر في الشخصية Activating Experience or Event ( الخبرة المنشطة ) مثل : وفاة ، طلاق ، رسوب 0 والخبرة في حد ذاتها لا تحدث الاضطراب السلوكي 0

ـ الحرف ( B ) يرمز إلى الاعتقادات التي تتطور لدى الإنسان حول ذلك الحدثBelief System ( نظام المعتقدات ) ونظام المعتقدات قد يكون عقلانيا Rational Belief ، أي أحداث واردة ومحتمل حدوثها في الحياة ، أو غير عقلاني Irrational Belief ، أي أحداث غير واردة وغير محتمل حدوثها في الحياة 0

ـ الحرف ( C ) يرمز إلى الانفعالات التي تنجم عن الاعتقادات Consequence ، أي النتيجة والنتيجة قد تكون عقلانية ( رضا ، صبر ، إصلاح ) ، وقد تكون غير عقلانية ( حزن ، توتر ، قلق ) 0

والشكل التالي يوضح العلاقة بين الأحداث والتفكير والنتائج



علاقة خطأ : النتيجة C ______________________ A الحادث المباشر



علاقة صحيحة : النتيجة C ____________________ A الحادث المباشر



B



• نمو الشخصية في النظرية العقلانية الانفعالية :

ينظر العلاج العقلاني الانفعالي إلى الفرد العادي على أنه ينمو في صورة رغبات شخصية وأماني وتفضيلات تجعل من كل شخص يختلف عن غيره من الأفراد ، حيث أن لكل منا عددا هائلا من السمات والتفضيلات التي تتراوح أيضا من البسيط والكثيف تبعا للجوانب الوراثية والخبرات الاجتماعيةلكل منا 0 ومع كل هذا فإن البشر يتشابهون في الجوانب البيولوجية العامة مثل الأكل ، والإخراج ، والتنفس والحركة ، والانتقال إلى أعمار أكبر ، إلا أن ( إليس ) قد صاغ مجموعة من المفاهيم الأساسية لنظريته الخاصة بالعلاج العقلاني الانفعالي تسهم في التعرف على وجهة نظره في الشخصية ، ومنها :

1ـ الاستعدادات البيولوجية :

ترى النظرية وجود أساس بيولوجي لسلوك الإنسان ، وذلك على العكس من معظم الطرق العلاجية الأخرى ، ويجزم ( إليس ) أن الإنسان يملك ميولا غريزية ( طبيعية ) تجاه العادات والمتعة والحركة والمزاح والسلبية المقترنة بالتفكير الإيجابي ، ولا سيما فيما يتعلق بالآخرين وأكثر من ذلك فإنه يرى أن الإنسان يولد ولديه ميول قوية على أن كل أمور حياته تسير نحو الأفضل ، وهو جاهز ليدين أو يلوم نفسه والآخرين والعالم ، عندما لا يحصل على ما يريد 0 وممن تحدثوا في هذا الأمر أبراهام ماسلو ، وكارل روجرز ، اللذان أشارا إلى أن الإنسان يولد وهو يتمتع بميول قوية لتطوير نفسه وتحقيق ذاته 0 كما ترى النظرية أيضا ، أن النضج الانفعالي هو اتزان دقيق بين اهتمام الفرد بالعلاقات مع الآخرين ومبالغته في الاهتمام بها ، ذلك أنه إذا كان هذا الاهتمام كبيرا جدا أو قليلا جدا ، فإن الفرد سوف ينزع إلى أن يخذل مصلحته وأن يسلك بصورة اجتماعية معادية ، ولكن إذا تقبل الحقيقة الواضحة وهي أنه من المرغوب فيه ولكن ليس من الضروري أن يكون علاقة طيبة مع الآخرين ، فإنه ينزع إلى أن يكون صحيحا انفعاليا 0

2ـ تأثير المجتمع ( التأثير الحضاري ) :

يميل البشر فطريا إلى أن يخضعوا للتأثير وبصفة خاصة أثناء مرحلة الطفولة ، ويكون هذا التأثير من أفراد أسرتهم ومن أقرانهم المباشرين وكذلك من جانب البيئة الحضارية التي يعيشون فيها بوجه عام ( المجتمع ) على الرغم من أن هناك اختلافات شاسعة بين الأفراد في هذا الصدد ( الخضوع للتأثير ) فإن البشر يضيفون اضطرابهم الانفعالي وعدم المنطقية بالخضوع لتعاليم الأسرة والمجتمع وتقاليدهما 0

3ـ أهمية البصيرة :

يذكر ( إليس ) أن بصيرة العميل بنفسه التي يكتسبها عن طريق التحليل النفسي قد تكون مضللة وغير صحيحة لأنها تقود العميل إلى أن يستنتج بأن الحوادث هي التي تسبب الاضطرابات والانفعالات 0 وعلى فالنظرية تعتقد أن الحوداث ليست هي السبب الحقيقي لانفعالاتهم ، وإنما نظرتهم إلى تلك الحوادث وأفكارهم عنها 0

4ـ قوة تأثير العلاج المعرفي :

إن إحداث تغيير جوهري في جانب معرفي هو أساس يمكن أن يساعد في إحداث تغييرات هامة في عديد من الانفعالات أو السلوكيات ، بينما إحداث تغيير جوهري في أحد المشاعر أو أحد التصرفات يكون له أثر محدود في التغيير المعرفي 0 ومن هنا فإن كل الإجراءات العلاجية تشتمل على جوانب معرفية عالية ، كما أن أكثر صور المعالجات فاعلية تميل إلى أن تكون معرفية بشكل أساسي بجانب كونها انفعالية أو سلوكية 0 ويستخدم العلاج العقلاني الانفعالي مجموعة كبيرة من الطرق المعرفية ، ولكنه يركز بشكل أساسي على مهاجمة الأفكار غير المنطقية 0

5ـ التفكير اللاعقلاني وعلاقته بالاضطراب :

يرى (إليس ) أن كل الاضطرابات الانفعالية الشديدة لا تنشأ من النقطة (A) "الخبرات أو الأحداث المنشطة " التي تؤثر على الناس ، وإنما تنشأ بشكل مباشر من النقطة (B) " أي الأفكار التي يتبناها الناس حول هذه الأحداث والخبرات " 0 وتشتمل (B) على الأفكار العقلانية (rBs) التي تأخذ بشكل عام صورة رغبات رغبات ومطالب ، وكذلك على الأفكار اللاعقلانية التي تأخذ صورة مطالب وأوامر وحتميات مطلقة (irBs)

• أهداف العلاج :

أوضح إلبرت إليس أن الهدف الكلي (RET) هو تقليل نزعة هزيمة النفس عند العميل والوصول إلى فلسفة حياتية أكثر واقعية ، وهناك هدفان أساسيان وهما :

أ ـ تقليل قلق العميل ( أي لوم نفسه ) ، وعدوانيته ( أي لوم العميل للآخرين والعالم ) 0

ب ـ تعليم العميل طريقة لمراقبة نفسه وملاحظتها وتقديرها ، والتأكيد لنفسه أن تحسن حالته سوف يستمر 0 وبهذا فإن الهدف الرئيسي من مشورة المرشد النفسي هو تعليم العميل كيف يتحرى ويناقش أفكاره اللاعقلانية 0

وهناك أهداف إيجابية أخرى ، ومنها ما يلي :

1ـ تكوين اهتمام ذاتي مستنير يعترف بحقوق الآخرين 0

2ـ تنمية التوجيه الذاتي والاستقلالية الذاتية والمسئولية 0

3ـ تحمل سقطات البشر ، وتقبل الأشياء غير المؤكدة والمرونة والانفتاح على التغيير والتفكير العلمي 0

4ـ تقبل المخاطر ، أو الرغبة في تجريب أشياء جديدة وتقبل الذات 0

وهذه الأهداف تمثل أرضية مشتركة بين العلاج العقلاني ، وغيره من الطرق الأخرى للعلاج 0 وجميع هذه الأهداف مشتقة من الهدفين الرئيسيين للعلاج 0 ( الشناوي ، 1994 ) 0

• تطبيقات النظرية في مجال الإرشاد والعلاج النفسي :

1ـ أسباب الاضطرابات :

يرى إليس أن أسباب الاضطراب الانفعالي تجمع بين المصادر المعرفية ، والانفعالية ، والسلوكية ، والتي لا تنبع من المعارف أو التفكير فحسب ، ولكنها تتأثر بها بدرجة كبيرة أيضا ، إلى جانب ذلك يرى أن سلوكيات الأفراد تتأثر ببيئاتهم الاجتماعية والمادية 0 ويقوم العلاج المعرفي السلوكي على مبدأ هام يتمثل في أن المعارف الخاطئة أو المشوهة هي التي تسبب الاضطرابات الانفعالية والسلوكية 0 حيث تشمل تلك المعارف ما يلي :

• الاعتقادات 0

• نظم الاعتقادات 0

• التفكير 0

• التخيلات 0

وعلى ذلك يعد الفرد مسؤولا بدرجة كبيرة عما يلحق به من اضطرابات انفعالية 0

2ـ دور المرشد في العملية العلاجية :

إن الإنسان كائن عقلاني ، ولديه القدرة على تجنب أو إزالة التعاسة والاضطرابات العاطفية ( الانفعالية ) ، وذلك عن طريق تعلم التفكير المنطقي ، ولهذا فإن مهمة المعالج هي مساعدة المسترشد على التخلص من الاتجاهات والأفكار اللامنطقية ، والاستعاضة عنها بأفكار منطقية ، وتعريفه بما يلي :

أ ـ إن صعوبات التي يعاني منها هي نتيجة تفكيره اللامنطقي وتشوه إدراكه 0

ب ـ إكسابه التفكير العقلاني ، وإعادة تنظيم أفكاره ومدركاته ، وذلك من أجل إزالة الصعوبات التي يعاني منها 0

3ـ خطوات العلاج التي يتبعها المرشد :

إن المتأمل للمفاهيم والفلسفة التي قامت عليها نظرية العلاج العقلاني الانفعالي ، يجد أنها تتلخص في معالجة اللامنطق بالمنطق ، واللامعقول بالمعقول 0

لأن البشر لهم إمكانية أن يكونوا عقلانيين ، لأن لديهم القدرة على تجنب معظم الاضطراب الانفعالي ، من خلال تعلمهم أن يفكروا بعقلانية ، وهذا ما يحدث في عملية العلاج 0

ومهمة المعالج أو المرشد في عملية العلاج هي مساعدة العميل أو المسترشد على التخلص من الأفكار غير العقلانية ، وغير المنطقية ، واستبدالها بأفكار عقلانية ومنطقية ، وذلك بإتباع الخطوات التالية أثناء عملية العلاج ، والخطوات هي :

1ـ الخطوة الأولى ـ التعرف على أفكار العميل ، وتحديد اللاعقلاني واللامنطقي منها 0

2ـ الخطوة الثانية ـ تعريف العميل أنها غير منطقية ، وغير معقولة ، وأنها أدت إلى اضطرابه الانفعالي ، مع ذكر أمثلة من سلوكه المضطرب 0

3ـ الخطوة الثالثة ـ تعريف العميل أن اضطرابه سيستمر إذا استمر يفكر تفكيرا غير منطقي ، أي أن تفكيره غير المنطقي الحالي مسؤول عن حالته ، وليس استمرار تأثير الأحداث السابقة0

4ـ الخطوة الرابعة ـ تغيير تفكير العميل وإلغاء الأفكار غير العقلانية 0

5ـ الخطوة الخامسة ـ تناول الأفكار غير المنطقية العامة ، وإرساء فلسفة عقلانية جديدة للحياة ، بحيث يتجنب العميل الوقوع ضحية لأفكار ومعتقدات غير عقلانية أخرى 0

والنتيجة التي تتمخض عنها عملية العلاج كما يذكر ( الشناوي ، 1994 ) هي : " أن يكتسب المسترشدون فلسفة عقلانية للحياة ، وأن يستبدلوا الأفكار والاتجاهات غير العقلانية بأفكار واتجاهات عقلانية ، وعندما يتحقق ذلك فإن الانفعالات السلبية ، والمولدة للاضطراب ستزول ويزول معها سلوك قهر النفس 0

4ـ الأساليب الفنية للإرشاد والعلاج العقلاني الانفعالي :

إن ما يفعله المعالجون في عملية العلاج العقلاني الانفعالي هو : تعليم المسترشد كيف يفكر بطريقة منطقية بحوادث الحياة وفلسفتها ، وبالتالي تغيير سلوكه وعواطفه 0

ويستخدم المرشد في العلاج العقلاني الانفعالي مجموعة من الأساليب المعرفية والانفعالية والسلوكية ، ونذكر منها ما يأتي :

أولا ـ الطرق المعرفية :

حيث يستخدم الإرشاد العقلاني الانفعالي مجموعة كبيرة من الطرق العلاجية المعرفية ، ومنها:

ــ التحليل الفلسفي والمنطقي للأفكار غير المنطقية ، والتعليم والتوجيه ، وتفنيد الاستنتاجات غير الواقعية ، ووقف الأفكار ، والإيحاءات ، والتشتيت المعرفي 0

ــ إعادة البناء المعرفي : ويعتمد على توضيح العلاقة (ABC) ، فالنتائج (C) ليست وليدة الأحداث المنشطة (A) التي تسبقها ، وإنما هي وليدة نسق التفكير والمعتقدات (B) ثم يتم الانتقال إلى تفنيد (D) Disputing الأفكار اللامنطقية ، وعن طريق مساعدة العميل على تفنيد أفكاره ومساعدته على تكوين أفكار منطقية أفضل يكون المعالج بذلك قد حقق الأثر المعرفي (E) Cognitive Effect وساعد العميل على إعادة بناء جوانب المعرفة لديه 0

ثانيا ـ الأساليب أو الطرق الانفعالية :

يستخدم المعالجون والمرشدون في العلاج العقلاني الانفعالي مجموعة من الطرق الانفعالية في توجهها ، بمعنى أنها موجهة للعمل مع مشاعر المسترشد ، ومن بين هذه الأساليب :

ــ أسلوب التقبل غير المشروط للمسترشد على النحو الذي قرره روجرز في العلاج المتمركز حول العميل 0

ــ التقليد أو النمذجة 0

ــ لعب الدور 0

ثالثا ـ الأساليب أو الطرق السلوكية :

ومن الأساليب السلوكية المستخدمة هي :

ــ الواجبات المنزلية 0

ــ الاسترخاء 0

ــ أساليب الإشراط الإجرائي ، كالتعزيز والعقاب 0

ــ التخيل الانفعالي العقلاني ، كأن يتخيل الفرد نفسه في موقف الانفعال ، وقد قام بتغيير مثل هذا الانفعال إلى انفعال أقل منه في المستوى ، كأن يتم تغيير الغضب إلى مجرد الضيق مثلا ، وهو ما يمكن التعبير عنه بأنه تغيير الانفعال السلبي غير الصحي إلى انفعال سلبي صحي 0

ــ أساليب تعليمية مساعدة ، وهي تعتبر جزءً مهما في الجلسات الإرشادية ، مثل : القراءات ، ومشاهدة الأفلام المساعدة 0

• نقد النظرية :

يذكر ( العزة وآخرون ، 1999) أن نظرية العلاج العقلاني الانفعالي ذات فلسفة واضحة ، وهي منطقية ، ومتكيفة مع الظروف والواقع ، فهي تجعل الإنسان شيئا مهما ، وبإمكانه أن يصنع سعادته ، ويحقق ذاته ، وأن ما يقوله لنفسه عن نفسه هو المحدد لنتائجها الانفعالية ، وليست الأحداث نفسها هي المؤثرة فيه 0

ويذكر ( زهران ، 2001 ) عدة مميزات للعلاج العقلاني الانفعالي ، ومنها :

1ـ تصل نسبة التحسن باستخدامه إلى حوالي 90% من الحالات ، ويؤتي ثماره عندما يستخدمه المعالج الكفء مع المريض الذكي 0

2ـ يناسب مجتمعاتنا العربية ، حيث المعتقدات غير العقلانية ، والأفكار الخرافية كثيرة 0

3ـ يعتبر أسلوبا مثاليا لتغيير المعتقدات غير العقلانية وغير المنطقية ، وإبدالها بأخرى عقلانية ومنطقية 0

4ـ يحصن المريض ضد الأفكار غير العقلانية التي قد يتعرض لها مستقبلا 0

أما الانتقادات التي وجهت إلى هذه النظرية فهي :

1ـ العلاج العقلاني الانفعالي ، خال من العواطف ، عقلاني إلى حد بعيد ويعتمد بشكل كبير على الألفاظ 0

2ـ أنه أسلوب مباشر بدرجة كبيرة ، وهو يخضع الفرد للعلاج بدون مراعاة لمعتقداته ومفاهيمه 0

3ـ لا تعلم العملاء كيف يفكرون لأنفسهم ، بل تجعلهم يعتمدون على المعالج 0

4ـ أنها لا تستخدم مع الأطفال ، أو حالات التخلف العقلي ، أو الاضطراب الشديد ، في شكلها الأولي 0

5ـ لا يوجد معيار موضوعي ( كالدين مثلا ) نحكم به على مدى عقلانية الأفكار ومنطقيتها 0

6ـ أنها لا تهتم بإقامة علاقة دافئة مع العميل 0

7ـ قد يتطرف بعض المعالجين ويبالغون ، فيصبح عملهم أشبه بعملية غسيل المخ بالنسبة للعميل 0

8ـ لا يروق لبعض العملاء هجوم المعالج على أفكارهم والذي بدوره قد يؤدي إلى المقاومة 0

النظرية الثالثة : العلاج المتمركز حول الحل :

مقدمة:

يعتبر هذا الأسلوب العلاجي من أحدث الأساليب العلاجية المختصرة، إذ تعود نشأته إلى أوائل الثمانينات من القرن العشرين على يد مؤسسه Steve de Shazer العالم الأمريكي رئيس مركز العلاج الأسري بمدينة ميلواكي بولاية ويسكنس الأمريكية. وعلى الرغم من حداثة النشأة فإن تطبيقاته العملية وإسهامات الباحثين حول التقنيات التي يقدمها ومدى ملائمتها في التعامل مع الفئات الاجتماعية المختلفة تعتبر دليلاً على انتشاره (Murphy, 1997).

وعلى خلاف الأساليب العلاجية الأخرى، فإن هذا الأسلوب العلاجي لا يستغرق في البحث عن الأعراض المرضية ولا عن العوامل التي ساهمت في نشأتها بقدر ما يتوجه مباشرة إلى الحلول التي تساهم في القضاء على المشكلة أو التخفيف من حدتها أو التكيف مع إفرازاتها. ومن هنا فإنه علاج موجه ومباشر نحو الهدف النهائي الذي يسعى له العميل وهو الوصول إلى التوافق النفسي والاجتماعي مع الذات ومع البيئة المحيطة.

نشأة أساليب العلاج المختصرة:

يشير التراث الأدبي للعلاج النفسي إلى استخدام الممارسين لمجموعة من المسميات المختلفة للعلاج المختصر فنجد البعض يطلق مسمى Short-term Therapy العلاج قصير الأمد وهناك من يطلق مسمى العلاج محدود الوقت Time-limited Therapy. وعلى الرغم من تعدد هذه المسميات إلا أن المحور الذي يدور حوله العلاج المختصر هو تقديم عملية المساعدة بكفاءة وفاعلية في وقت قصير.

ويمكن الإشارة إلى بعض العوامل التي ساهمت في نشأة وتطور وشيوع استخدام العلاج المختصر:

1ـ قلة عدد المختصين في مجال مهن المساعدة الإنسانية وعدم توفر الخبرة الكافية لدى البعض منهم .

2ـ ازدياد حجم ونوعية المشكلات الإنسانية التي يعاني منها الأفراد والجماعات والمجتمعات الإنسانية نتيجة للتحولات الاجتماعية والاقتصادية والتقنية المتسارعة والتي ساهمت في التأثير على نمط المعيشة وأنماط السلوك الإنساني .

3ـ قلة عدد المؤسسات المجتمعية التي يتم من خلالها تقديم أوجه الرعاية الاجتماعية.

4ـ نمط الحياة المتسارع والذي أصبح سمة هذا العصر فنجد معظم الأفراد ينشغلون بأمور حياتهم إلى الحد الذي لا يتيح لهم الدخول في علاقات علاجية طويلة الأمد وهو ما يميز الأساليب العلاجية التقليدية (Lieberman, 1979).

ويرى كل من (Metcalf, 1995) أن هذه العوامل ساهمت بقدر كبير في نشأة وتطور أساليب العلاج المختصرة في محاولة للتكيف مع التزايد المضطرد في أعداد العملاء وتدني الموارد المادية والبشرية في مقابلة ذلك.

وبالرغم من أهمية العوامل سالفة الذكر في بلورة العلاج المختصر إلا أن هناك عاملاً لا يمكن تجاوزه في هذا الصدد وهو الجانب الاقتصادي المتمثل في دور شركات التأمين الصحي في المجتمعات الغربية وما تمارسه من ضغوط على المؤسسات الاجتماعية والممارسين لتقنين عملية المساعدة وتقليص الإنفاق على جلسات العلاج، بل إن الأمر تعدى ذلك إلى تخصيص عدد محدد من الجلسات على الممارس تقديم عملية المساعدة خلالها.

وتشير معظم المصادر العلمية إلى أن العلاج المختصر ارتبط بعلم النفس الدينامي ونظرية التحليل النفسي لفترة من الزمن وأنه لم ينقل إلا في الستينات من القرن الماضي (Aguilera & Messick, 1986). بيد أن العلاج المختصر يمكن أن يعزى إلى إسهامات Milton Erickson عندما أطلق عبارته الشهيرة:No general Theory, No general Clientلا يوجد نظرية عامة ولا يوجد عميل عام 0

ويشير Murphy (1997) إلى أن إسهامات Erickson كان لها قصب السبق في صياغة أساسيات العلاج المختصر. ويضيف أن عبارة Erickson تتضمن أنه من الصعب الحصول على نظرية واحدة تستطيع تفسير السلوك الإنساني كما أنه من الصعب أن ينظر إلى العملاء نظرة واحدة حتى وإن كانت تبدو مشكلاتهم متشابهة ويرى Garfield (1994) أن العلاج المختصر فعال ومؤثر نتيجة للآتي :

1ـ معظم الأفراد يلجأون لطلب العلاج لمشكلة محددة يواجهونها وليس من أجل الحصول على الاستبصار بتأثيرها فقط.

2ـ معظم من يطلبون المساعدة يتوقعون النتائج العاجلة التي لا تستنزف الوقت والجهد.

ومما يجدر الإشارة إليه في تطور أساليب العلاج المختصر الإسهامات الكبيرة التي قدمها معهد الأبحاث العقلية Mental Research Institute (MRI) في مدينة Palo Alto بولاية كاليفورنيا بالولايات المتحدة الأمريكية منذ العام 1967 ومن أبرز العلماء Bateson و Jackson و Weakland و Watzlawick وغيرهم ويرى (Goldenberg

&Goldenberg, 1985) أن العلاج المختصر هو علاج محدود الوقت يتميز بالواقعية والتركيز على الحاضر والنشاط الموجه والتدرج في الوصول للأهداف.

ويقدم معهد الأبحاث العقلية نموذجاً يوضح كيفية تعامل العميل مع المشكلة التي تواجهه ومدى مساهمة هذه الطريقة في تفاقم المشكلة وازدياد حدثها (شكل رقم 1).

ومن خلال النظر إلى الشكل يمكن ملاحظة أن العميل يدور في دائرة مغلقة من خلال محاولة علاج المشكلة بحلول أثبتت فشلها وساهمت في تفاقم المشكلة. والعلاج لهذا الوضع كما يراه MRI تكمن في كسر هذه الدائرة من خلال التخلي عن الحلول عديمة الفائدة ومحاولة إيجاد حل مختلف.

نشأة العلاج المتمركز حول الحل:

لقد ارتبط العلاج المتمركز حول الحل في بداية الثمانينات من القرن العشرين بالعالم الأمريكي Steve de Shazer وزملاءه في معهد العلاج الأسري المختصر Brief Family Therapy Center بولاية ويسكنسن الأمريكية. والمتتبع لهذا النوع من العلاج يلاحظ أن de Shazer وزملاءه استفادوا كثيراً من إسهامات Milton Erickson من خلال الآتي:-

1ـ التركيز على المستقبل بدلاً من التركيز على الماضي والاستغراق فيه.

2ـ التركيز على الحلول بدلاً من التركيز على المشكلات.

3ـ التركيز على قدرات العميل وإمكانياته بدلاً من التركيز على مواطن الضعف.

وعلى هذا حاول de Shazer (1985) ورفاقه الاهتمام بالجوانب الإيجابية في حياة العملاء واستثمارها إلى أقصى مدى حتى يتمكنوا من التغلب على الصعوبات التي تعوق أدائهم لوظائفهم الاجتماعية والقيام بأدوارهم الاجتماعية (de Shazer, 1985).

ويشير Jeffrey Kottler (1997) إلى أن de Shazer بدأ في ملاحظة التغير الذي يحدث للعملاء بين الجلسات العلاجية من خلال التركيز على الأوقات التي لا تحدث فيها المشكلة أو التي لا يتعرض العميل فيها للضغوط وذلك بحثا منه على الحلول المنشودة. ومن هنا فهو لا يركز على المشكلة ولا على أعراضها بل إنه يعتبر ذلك مضيعة للوقت.

ومثال على ذلك أن المرأة التي تطلب الإرشاد النفسي والاجتماعي نتيجة لسوء معاملة زوجها لها، يمكن أن تحدد بعض الأوقات التي يعاملها زوجها معاملة جيدة حتى وإن كانت تلك الفترات الزمنية قصيرة جداً. ويؤكد de Shazer (1988) أن المشكلة لا تستمر مع العميل طوال الوقت بل إنها تأتي وتذهب تبعاً للمؤثرات والعوامل التي تتسبب في حدوثها.

وخلاصة القول أن نشأة العلاج المتمركز حول الحل – على خلاف غيره من الأساليب العلاجية – رغم حداثتها لاقت صدى كبيراً لدى الممارسين في مجال العلاج النفسي والخدمة الاجتماعية لعدة أسباب يمكن حصرها في الآتي :

1ـ التركيز على المعطيات الحاضرة والتطلع إلى المستقبل.

2ـ استغلال كل ما يحضره العميل للعلاج النفسي وعدم الاستغراق في الماضي.

3ـ أنه علاج مباشر وموجه وفعال.

4ـ سهولة تطبيقه في الواقع الاجتماعي وتدريب الممارسين عليه.

5ـ يتعامل مع مشكلات الحياة اليومية بفاعلية ولا يجهد العملاء أو يستنفذ أوقاتهم في جلسات العلاج الطويلة .

المفاهيم الأساسية:

لقد حاول كل من de Shazer (1987) ، Berg & Miller (1992) أن يحددوا ثلاثة مسلمات يقوم عليها العلاج المتمركز حول الحل هي :

1ـ العملاء هم الذين يحددون أهدافهم العلاجية ولا يجب أن تفرض تلك الأهداف من قبل المعالج النفسي. وعلى هذا يجب أن يكون التركيز منصباً على مساعدة العملاء على الوصول إلى الحلول بدلاً من البحث في العوامل التي ساهمت في تفاقم المشكلة. واتجاه المعالج النفسي نحو ذلك يجعل العميل يتجاوب مع العلاج ويمكنه من استثمار قدراته وإمكانياته.

2ـ "إذا عرفت ما الذي يحقق التغيير فالزمه وساعد العميل على عمل المزيد منه". ومعنى ذلك أن التغيير مهما كان بسيطاً هو الهدف المنشود والوصول إليه وشعور العميل بما يحدثه في حياته هو لب العلاج ويجب أن يستمر العمل من خلاله حتى يتحقق التغيير الكامل وهو زوال المشكلة أو على الأقل الحد من آثارها على العميل.

3ـ "إذا كان العلاج غير فعال ولم يحدث التغيير فلا تعاود محاولته مرة ثانية" ومعنى ذلك أن على المعالج محاولة أسلوب آخر أو حل آخر غير الذي ثبت فشله وفي هذا خروجاً من الاحباطات التي يشعر بها العميل واستثاره لقدراته وإمكانياته في البحث عن حلول أخرى أكثر فاعلية في التصدي لمشكلته.

وبناء على هذه المسلمات يقدم Kottlor (1997) خمسة مفاهيم أساسية يقوم عليها العلاج المتمركز حول الحل وهي :

1ـ أن يتمحور المفهوم الأول في العلاج المتمركز حول الحل حول التركيز على ما يمكن تحقيقه وفقاً لمعطيات شخصية العميل والبيئة المحيطة. وعلى هذا فالممارس تقع عليه مسؤولية توجيه العميل نحو ما يمكن تحقيقه والنجاح فيه بدلاً من ما لا يمكن تحقيقه والفشل فيه. ويشير أنصار هذا العلاج إلى ذلك بمقولة "Solution talk" حديث الحل بدلاً من "Problem talk" حديث المشكلة. ومعنى ذلك أن عملية العلاج يجب أن توجه نحو الحل وكيفية الوصول إليه.

2ـ المفهوم الثاني يدور حول التأكيد على أن كل مشكلة لها استثناءات (هي الأوقات التي لا تظهر فيها المشكلة) يمكن تحويلها والتعامل معها على أنها حلول ممكنة للمشكلة. ويرى مؤسسي هذا النوع من العلاج أن العملاء يعتقدون خطأً أن المشكلات التي يعانون منها ملازمة لهم على الدوام بينما في الواقع تأثير المشكلة لا يستمر قوياً طوال الوقت بل إنه قد يتلاشى ثم يعاود. والمشكلة تكمن في أن العملاء لا يلاحظون تلاشي المشكلة من حياتهم بالقدر الذي يشعرون بتأثيرها متى عاودت. من هنا فملاحظة الممارس لتلك الاستثناءات يعتبر الخطوة الأولى نحو الوصول إلى الحلول الممكنة لمساعدة العميل وتقديم عملية المساعدة.

3ـ المفهوم الثالث الذي يرتكز عليه العلاج المتمركز حول الحل يقوم على فكرة كرة الثلج "Snow ball" بمعنى أن التغيير البسيط في حياة العميل يؤدي إلى نجاح أكبر وصولاً إلى الهدف النهائي وهو التوافق النفسي والاجتماعي.

مثال :

الطالب الذي يعاني من التأخر الدراسي نتيجة لأنه يكره مادة الرياضيات لا يمكن للمرشد الطلابي أن يحقق الهدف النهائي وهو هنا التفوق الدراسي ما لم يسعى في البداية إلى إحداث بعض التغييرات البسيطة في حياة الطالب مثل: حث مدرس الرياضيات على تشجيع الطالب أمام زملاءه، إعطاءه دروساً خصوصية في أوقات الفراغ بين الحصص الدراسية، إدماج الطالب في مجموعة صغيرة مع بعض الطلاب المتفوقين في مادة الرياضيات. مثل هذه التغييرات الصغيرة تؤدي إلى تغيير أكبر في حياة الطالب.

4ـ المفهوم الرابع يدور حول أهمية الاعتراف بأن لكل عميل قدرات (Strengths) يستطيع استخدامها للتغلب على ما يواجهه من صعوبات. وعلى هذا يجب على الممارس أن يعطي اهتماماً كبيراً نحو اكتشاف قدرات العميل وتجنب التركيز على مواطن الضعف فيه.

إن التركيز على القدرات يزيد من ثقة العميل بنفسه ومن قدرته على الاعتماد عليها فترتفع روحه المعنوية ويكبر الأمل والتفاؤل داخله ويصبح متطلعاً للمستقبل ومتخلصاً من آثار الماضي.

5ـ يدور هذا المفهوم حول ضرورة صياغة أهداف العميل بصورة إيجابية Positive goals بدلاً من صياغتها بصورة سلبية Negative goals لأن هناك فرقاً شاسعاً بين النظر إلى نصف الكوب المليء بالماء وبين النظر إلى نصف الكوب الفارغ من الماء.

إن الطريقة التي ينظر بها الإنسان إلى الأشياء هي التي توجه إمكاناته وقدراته وهي بمثابة الوقود الذي يتزود منه الإنسان بالطاقة.

ومن هنا كان على الممارس أن يساعد العميل على صياغة أهدافه بطريقة إيجابية من خلال سؤاله عما يود فعله وليس ما لا يود فعله. وهذا لأن العملاء يكتسبون القوة من خلال إنجاز الأهداف التي وضعوها لحل مشكلاتهم التي يواجهونها.

العلاقة بين الأخصائي الاجتماعي والعميل:

يقوم الأخصائي الاجتماعي المستخدم لأسلوب العلاج المتمركز حول الحل بدور فاعل ونشيط ويبذل جهداً أكبر مقارنة بالأساليب العلاجية الأخرى. ويتمحور الدور الأكبر للأخصائي الاجتماعي حول مساعدة العميل في تحديد الأهداف العلاجية والمحافظة على تركيزه في إنجاز تلك الأهداف (O'Hanlon & Weiner-Davis, 1995).

ومن المهارات التي يجب على المعالج أن يكتسبها في علاقته مع العملاء ما يلي:-

1ـ التعاطف والمشاركة الوجدانية (empathy) وفيها يظهر اهتمام المعالج بالعميل من خلال فهمه لمشكلته وتقديره لمشاعره والمعاناة التي يشعر بها.

مثال:

الأخصائي: أقدر مشاعر الألم التي تشعر بها الآن وأعلم مقدار المعاناة التي تمر بها.

2ـ الاستعداد لمناقشة كل شيء وأي شيء يود العميل مناقشته Readiness to discuss everything ولكن هذا الأمر لا يعني بالضرورة أن المعالج يستطيع أن يعالج كل مشكلات العميل أو أن لديه إجابة لكل سؤال أو استفسار يطرحه العميل بل يعني أن المعالج لديه استعداد لبذل الجهد في محاولة مساعدة العميل.

3ـ الهدوء ورباطة الجأش (Composure) وتعني أن يكون المعالج مرتاحاً من علاقته بالعميل بغض النظر عن اعتقاداته وآراءه الشخصية وبغض النظر عن الفوارق الاجتماعية أو الاقتصادية. فالعميل في نهاية المطاف إنسان يجب احترامه والاهتمام به. والهدوء هنا يجعل المعالج قادراً على التركيز في كل ما يقوله أو يشعر به العميل.

4ـ التشجيع (encouragement) وهو الإيمان الكامل بأن لكل عميل قدرات وإمكانيات يستطيع استثمارها إلى أقصى حد من أجل التغلب على المشكلات التي تعوق تكيفه النفسي والاجتماعي. وقيام الأخصائي الاجتماعي بتشجيع العميل على تحمل المسؤولية يكسب الأخير الثقة بذاته وبقدراته كما أن ذلك يسهل عملية تقديم المساعدة.

5ـ الهدفية (Purposefulness) وتعني أن يكون الأخصائي الاجتماعي هادفاً في عمله فلكل نشاط يقوم به هدف وغاية يسعى إلى تحقيقها وتخدم مصالح عملاءه. كما يجب عليه أن يسعى إلى توضيح ذلك للعملاء الذين يتعامل معهم. وكلما كانت تلك الأهداف واضحة لدى الأخصائي والعميل كلما كان ذلك أدعى لأن تصبح عملية المساعدة أكثر كفاءة وفاعلية.

وعلى هذا فالعلاقة المهنية بين كل من الأخصائي الاجتماعي والعميل هي علاقة تبادلية (Reciprocal) بمعنى أن الأخصائي الاجتماعي لا يفرض على العميل أهدافاً محددة ويجبره على تبنيها كما أن العميل ينظر إلى الأخصائي الاجتماعي كشخص مقبول ومتفهم ويمكن الاعتماد عليه (Aguilera & Messick, 1986). وهذا النوع من العلاقة مهم لإنجاز الأهداف العلاجية وإتمام عملية التدخل المهني .

ويمكن لنا أن ننظر إلى طبيعة العلاقة المهنية التي تربط الأخصائي الاجتماعي بالعميل في العلاج المتمركز حول الحل من خلال معرفة طبيعة العملاء.

ويقدم كل من Fisch et al (1982) و de Shazer (1988) تصنيفا للعملاء يقسمهم إلى ثلاثة أنواع :

1ـ العميل الزائر (Visitor) وهو العميل الذي لا يرغب في العلاج ولا يفعل شيئاً تجاه المشكلة التي يعاني منها. ومثال ذلك الطالب الذي يرغم على مقابلة المرشد الطلابي من قبل مدير المدرسة.

2ـ العميل كثير الشكوى (Complainant) وهو العميل الذي يعترف بوجود المشكلة وتأثيرها عليه ولكنه لا يرغب في عمل أي شيء لمواجهتها أو التصدي لها.

3ـ العميل الزبون (Customer) وهو العميل الذي يعترف بوجود المشكلة ويرغب في حلها ولديه الاستعداد الكامل للتعاون مع الأخصائي الاجتماعي في حلها.

والسؤال المهني الذي يفرض نفسه هنا هو كيف تواجه كل نوعية من العملاء باستخدام العلاج المتمركز حول الحل ؟ وللإجابة على هذا السؤال يطرح Murphy (1997) عدداً من المهارات التي يمكن أن تساعد الأخصائي الاجتماعي .

نوع العميل الوصف المهارات : العميل الزائر - لا يدرك المشكلة ويراها مرتبطة بشخص آخر.

أ ـ يأتي إلى العلاج مرغماً.

ب ـ ليس لديه التزام في العملية العلاجية. - الامتناع عن الاقتراحات التي تتضمن أفعال.

ج ـ تقدير الموقف ووجهة النظر التي يتبناها العميل.

د ـ مدح الجوانب الإيجابية في موقفه.

هـ ـ نقاش العميل في المشكلة والأهداف بطريقة ذات معنى.

و ـ ناقش مع العميل مواضيع محببة مثل هواياته.

العميل كثير الشكوى - يعترف بالمشكلة وتأثيرها ولكن لا يرغب في المساعدة على حلها.

أ ـ يرى نفسه عاجزاً عن حل مشاكله.

ب ـ يرى أن مسؤولية حل مشاكله تقع على غيره. - الامتناع عن الاقتراحات التي تتضمن أفعال.

ج ـ استمع وقدم المديح.

د ـ قدم أسئلة وتوجيهات بأسلوب غير مباشر.

هـ حاول مع العميل الوصول إلى حلول عن طريق الوصف الذهني.

وـ أجعل العميل يتأمل في واقعه ويلاحظ الأحداث التي تدور حوله.

العميل الزبون - يعترف بوجود المشكلة ويرغب في حلها.

أ ـ عنصر فاعل في عملية المساعدة .

ب ـ اقترح مهام تتضمن أفعال.

ج ـ اكتشف واستخدم الأفكار التي يحضرها العميل معه أثناء المقابلة.

د ـ الاتصال بالعميل وإطلاعه على التقدم الذي حصل.

هـ ـ حاول أن تجعل العميل متصلاً بعملية المساعدة ومشاركا في كل مهامها.

تكنيكات العلاج:

إن التكنيكات التي يقدمها المتمركز حول الحل هي وسائل تعتمد بدرجة كبيرة على مهارة الأخصائي الاجتماعي وعلى مدى استجابة العميل أثناء عملية المساعدة. ومع عرضنا لهذه التكنيكات يظل هناك تساؤلاً حول مدى ملائمة تطبيقها في المجتمعات العربية حيث أنها نشأت وتطورت وتم تطبيقها فأثبتت فاعلية في المجتمعات الغربية. وهذا لأن المشكلات الإنسانية وإن تشابهت الأسماء يظل التراث الثقافي والاجتماعي عاملاً مؤثراً في الجانب التطبيقي فلكل مجتمع خصوصيته الثقافية والاجتماعية.

ومن هذه التكنيكات ما يلي :

1ـ إعادة التشكيل (Reframing) : وهو أسلوب يستخدم من أجل مساعدة العملاء على تفهم مواقفهم وصياغة أهداف العميل العلاجية.

مثال:

الطالب : لا أريد أن يوقفني المعلم أمام التلاميذ لأنني لم أقم بحل الواجب؟ (هدف سلبي).

هذا الطالب صاغ هدفه بطريقة سلبية تجعله لا يتقدم في العملية العلاجية والسبب أنه ربط الإيقاف في الفصل بعملية أنه لم يقم بحل الواجب. وهنا على الأخصائي أن يساعد الطالب في تغيير هذا الهدف السلبي إلى هدف إيجابي كالآتي:-

الأخصائي: كيف يمكن للمعلم أن لا يوقفك أمام التلاميذ ؟

الطــالب : إذا قمت بحل الواجب فإن المعلم لن يوقفني أمام التلاميذ.

2ـ السؤال المعجزة (Miracle Question) : أن الهدف الرئيسي من هذا التكنيك هو البحث عن الاستثناءات التي يمكن أن تقود العميل إلى عملية المساعدة. ولقد قدم de Shazer (1988) صيغة لهذا التكنيك كما يلي :

الأخصائي : تخيل أنك قمت من النوم في الصباح وقد انتهت المشكلة التي تواجهك. ما الذي يمكن أن يتغير في حياتك ؟

من خلال إجابة العميل حول هذا الافتراض يمكن للأخصائي الاجتماعي أن يبحث عن الحلول وفقاً لما يراها العميل ثم يقوم بمناقشة العميل حول إمكانية تطبيق تلك الحلول .

ولعل من الأمور التي تؤكد ضرورة تعديل الأساليب العلاجية بما يتوافق مع البيئة الإسلامية هو تعديل بعض المسميات المرتبطة بتلك الأساليب والتكنيكات العلاجية مثل السؤال المعجزة لعدم توافق ذلك مع المعطيات الإسلامية واقترح أن يسمى سؤال الحلم (Dream Question) فإن ذلك أدعى للقبول لدى الأفراد في المجتمعات الإسلامية.

3ـ أسئلة " ماذا بعد ؟ " (What else questions) : إن الهدف من هذه الأسئلة هو زيادة وتعزيز فرصة العملاء في أن يجدوا الحلول الممكنة للمشكلات التي يواجهونها.

مثال:

العمــيل: أريد أن أتخلص من كل المشكلات التي أعاني منها.

الأخصائي: ماذا بعد أن تتخلص من كل المشكلات، ما الذي يمكن أن يتغير في حياتك؟

4ـ خريطة العقل (Mind mapping) : إن هذا التكنيك العلاجي ما هو إلا رسم خريطة للأفكار التي تقود وتوجه العملاء وتصبغ سلوكهم ومشاعرهم. ولكي يستخدمه الأخصائي الاجتماعي فإن عليه أن يقوم باستدعاء سلوك العميل الإيجابي مهما كان صغيراً وتعزيز ذلك السلوك في حياة العميل ومطالبته بعمل المزيد منه. هذا السلوك سوف يعمل بمثابة الخارطة التي سوف تقود العميل وترشده إلى الوصول إلى النجاح في العملية العلاجية وفيما يحقق أهدافها.

5ـ توجيه النجاح (Cheer Leading) : يعرف Kottler (1997) هذا التكنيك بأنه مساندة وتشجيع نجاح العميل من خلال إسماع العميل كلمات المدح والثناء. فالعملاء يحبون من يثني على ما يقدمون أو ما يقومون به من أفعال. وذلك إن حدث يمنحهم الثقة بالنفس ويعتبر بمثابة الوقود الذي يدفعهم للمشاركة الفاعلة في عملية المساعدة.

ويمكن للأخصائي أن يظهر هذا التكنيك من خلال:

1ـ رفع مستوى الصدق أثناء الحوار ليري العميل كيف أن عملية المساعدة تتقدم.

2ـ التعبير للعميل عن السرور عندما يقوم العميل بمحاولة جادة للوصول إلى حل للمشكلة.

3ـ إظهار الإعجاب بما يقدمه العميل من تفكير بناء ورشيد وناضج في المشكلة التي يواجهها.

مثال :

1) الأخصائي : حقيقة فعلت ذلك !!

2) الأخصائي : أنا بالفعل معجب بما قمت به !!

3) الأخصائي : ما قمت به يستحق التقدير والاحترام !!

6ـ المقياس (Scaling) : هذا التكنيك يهدف إلى مراقبة التحسن الذي يطرأ على الحالة من مقابلة إلى أخرى أثناء العملية العلاجية، ويتم ذلك من خلال الطلب من العميل أن يحدد على مقياس يبدأ من صفر إلى 10 بحيث أن الصفر يعني أنه لا يوجد تقدم أو تحسن في حل المشكلة بينما يعني رقم 10 أن المشكلة تماماً انتهت وتم التوصل إلى حل لها. وعندما يختار العميل رقماً بين طرفي المقياس يقوم الأخصائي الاجتماعي بسؤاله عن سبب اختيار الرقم وعن مقدار التحسن الذي طرأ على الحالة.

فمثلاً عندما يختار العميل في المقابلة الأولى صفر وفي المقابلة الثانية يختار الرقم 4 يتم مساءلة العميل عما حدث من تقدم وما هي الأفعال والمهام التي قام بها في مواجهة المشكلة التي يعاني منها. ثم عندما يذكر العميل بعضاً من تلك الأفعال التي ساهمت في عملية التغيير يطالبه الأخصائي بالاستمرار في فعل ذلك حتى تستمر حالة التغيير وصولاً إلى الأهداف العلاجية.

تقييم العلاج المتمركز حول الحل :

على الرغم من النجاحات المتوالية التي تزخر بها أدبيات العلاج النفسي حول كفاءة وفاعلية العلاج المتمركز حول الحل في التعامل مع المشكلات الإنسانية في مجالات التربية والصحة العقلية والانحراف السلوكي وسوء التوافق الأسري، إلا أن تعميم تلك النجاحات في المجتمعات الإنساني ومع مختلف الثقافات لا يزال أمرا يحتاج إلى الكثير من البحوث الإمبيريقية.

وما من شك أن العلاج المتمركز حول الحل علاج فعال وموجه نحو الحلول دون الاستغراق في ملاحظة الأعراض والاستغراق في البحث عن العوامل وايجاد التفسيرات المنطقية لأنماط السلوك. بيد أن المشكلات الإنسانية ليست دائما متماثلة أو متطابقة، كما وأن العملاء يتمايزون في قدراتهم الذاتية ويختلفون في بيئاتهم.

ومن هنا يتوجه النقد إلى العلاج المتمركز حول الحل في كونه أسلوبا علاجيا تفاؤليا إلى حد المبالغة. فهو ينظر إلى العميل على أنه يملك من القدرات والإمكانيات ما يؤهله للتغلب على الصعوبات التي تواجهه. وفي هذا نوع من التفاؤل المفرط فالعملاء ليسوا في مستوى واحد من القدرات الصحية والنفسية والاجتماعية وبالتالي فمن المنطقي أن يختلفوا في مستوى استجاباتهم وردود أفعالهم.

ومن النقد الذي يوجه أيضا لهذا الأسلوب العلاجي أنه يعتمد كثيرا على البحث عن الاستثناءات (الأوقات التي لا تظهر فيها المشكلة) ودفع العميل نحو ملاحظتها وإدامة فتراتها. وفي هذا هروب من مواجهة المشكلة ومحاولة للتوافق معها ومع تأثيراتها كما وأن ذلك يجعل العميل يقف موقفا سلبيا منها.

وما يهمنا في هذا المقام هو مدى ملائمة هذا النوع من العلاج في مجتمعاتنا العربية والإسلامية التي تتميز بخصوصيتها الثقافية والدينية. وهذا الأمر من الصعوبة الخوض فيه، حيث أنه يحتاج إلى المزيد من الأبحاث التطبيقية والممارسة المهنية 0

نظرية العلاج بالواقع Reality Therapy Theory

• مقدمة :

انتشر العلاج بالواقع بصورة سريعة بين المرشدين في منتصف الستينات واستخدم في الإرشاد الفردي والجماعي في المؤسسات والمدارس 0 والعلاج بالواقع هو أحد الاتجاهات الجديدة في الإرشاد والعلاج النفسي ، وهو اتجاه يعتمد على الإدراك والتفكير ، ويربط ما بين الاضطراب العقلي والسلوك اللامسؤول 0 حيث يقول صاحب النظرية ( وليام جلاسر ) : " إن السلوك اللامسؤول هو سلوك انهزامي يستدعي إيذاء الذات وإيذاء الآخرين " 0 وتركز هذه النظرية على فكرة أن الإنسان كائن عقلاني ومسؤول شخصيا عن سلوكياته 0 وعندما كان ( جلاسر) يعمل في التعليم كمرشد في الستينات ، طبق مفاهيمه الأساسية للعلاج بالواقع على وسائل التعليم والتعلم 0

• التعريف بصاحب النظرية :

صاحب النظرية هو ( وليام جلاسر ) ، ولد في عام 1925 ، في مدينة كليفيلاند ، في ولاية أوهايو ، بالولايات المتحدة الأمريكية 0 حصل على البكالوريوس في الهندسة الكيماوية ، وعلى درجتي الماجستير والدكتوراه في علم النفس الإكلينيكي من جامعة Case Western Reserve ، في كليفيلاند ، ثم انتقل إلى جامعة UCLA ، ليقوم بأبحاثه في الطب النفسي 0 وفي آخر سنة من بحثه قضاها في مستشفى إدارة الأطباء المتخصصين في لوس انجلوس وجد أن مريضين قد تخرجا في سنة واحدة ، وهي نسبة ضئيلة جدا ، مما أدى إلى اعتراضه على برنامج العلاج النفسي التقليدي المتبع ، وتكوين آرائه الخاصة حول العلاج الواقعي 0 وقد انتقل عام 1957 إلى كاليفورنيا كرئيس الأطباء النفسيين في مركز للفتيات الجانحات ، وكانت فرصة له لتنفيذ أفكاره حول طريقة العلاج الواقعي 0 وقد لاقت أفكاره نجاحا كبيرا ، إذ كانت النتائج مذهلة ، وغير متوقعة ، حيث أصبحت نسبة التخريج 100% تقريبا خلال أربع سنوات0 وفي عام 1961 نشر ( جلاسر ) الأشكال الأولى للعلاج الواقعي في كتاب ( الصدمة العقلية والمرض العقلي ) ، ثم نقحت المفاهيم الواردة في هذا الكتاب ووسعت ، ثم أعيد طبعها في كتاب ( المعالجة الواقعية ) وذلك في عام 1965 0 وفي عام 1990منحته جامعة سان فرانسيسكو الدكتوراه الفخرية ، وذلك لإسهاماته 0 وفي عام 2003 نال جائزة (ACA) وهي جائزة على مستوى الدولة وتقدم للإسهام العلمي في التطوير المهني ، وذلك نظير إنجازاته في مجال العلاج النفسي 0

• النظرة للإنسان كما تراه نظرية العلاج بالواقع :

يرى ( جلاسر ) أن التعليم السائد يركز على الذاكرة ، وعلى المعرفة بالحقائق ، بينما يقللون من استخدام أساليب حل المشكلات ، والتفكير النقّاد 0 وذلك يعود لثقة ( جلاسر ) بشكل كبير في قدرة الطلاب على تحديد ملائمة خبرتهم التعليمية ، والمساعدة في اتخاذ قرارات جديدة ، كما يرى أن المعلم يسهل العملية التعليمية 0 وبهذا يرى أن كل شخص قادر على توجيه حياته وبوسع الناس إذا اعتمدوا على قراراتهم أكثر من اعتمادهم على مواقفهم أن يحيوا حياة مسؤولة وناجحة 0 ويلخص ( جلاسر ) قوله بالنظرة الإيجابية للناس ، فيقول : " إننا نعتقد أن كل فرد لديه قوة للصحة وللنمو ، وأن الناس في الأساس يريدون أن يكونوا مسرورين ، وأن يحققوا هوية نجاح ، وأن يظهروا سلوكا مسؤولا ، وأن تكون لديهم علاقات شخصية ذات معنى " 0 ( الشناوي ، 1989 ) 0

• المفاهيم الأساسية للنظرية :

تعرف هذه النظرية بـــ (3R) ، وسأفسر سبب تسميتها بهذا الاسم بعد أن يتم تناول مفاهيم النظرية ، وهي كما يلي :

1ـ الواقع Reality : وهو عبارة عن الخبرات الواقعية الشعورية في الحاضر ، بعيدا عن المثالية أو الخيال ، أو الأحلام 0 وأن الفرد السوي هو الذي يتقبل الواقع الذي يعيشه ، بغض النظر عن الظروف المصاحبة 0 وأن إنكار الواقع ــ جزئيا أو كليا ــ يسبب اضطرابا في السلوك 0 ويرى ( جلاسر ) أن من أهداف نظريته هو تدعيم الواقع لدى العميل أو المسترشد0

2ـ المسؤولية Responsibility : وهي مسؤولية الفرد عن إشباع حاجاته 0 وتتمثل هذه الحاجات ، في الحاجات الفسيولوجية ، مثل : الحاجة إلى الأمن ، والحاجة إلى الحب ، والحاجة إلى الاحترام ، والحاجة إلى تقدير الذات 0 والإنسان السوي هو الذي يكون مسؤولا عن إشباع حاجاته ، ويكون مسؤولا عن سلوكه ونتائجه 0 وأن السلوك غير المسؤول ، ونقص القدرة على إشباع الحاجات الأساسية يسبب اضطراب السلوك 0

3ـ الصواب والخطأ Right & Wrong : أي قدرة الإنسان على فعل الصواب ، وتجنب الخطأ ، وذلك حسب ما يمليه عليه الدين ، والقوانين ، والأعراف السائدة في كل مجتمع 0 وهو سلوك معياري ، متى ما احترمه الفرد حقق له حياة اجتماعية ناجحة ، والعكس بالعكس0 ومن خلال العناصر الثلاثة السابقة ، سميت هذه النظرية بــ (3R) ، وهي : Reality + Responsibility+ Right 0

4ـ السلوك Behavior : حيث يرى ( جلاسر ) أن التركيز يجب أن يكون منصبا على السلوك ، أكثر من العواطف ، لأن السلوك هو الذي يمكن تغييره 0 فالعلاج الواقعي ، يعتقد أنه من السهل أن يضبط العملاء ، أو المسترشدين سلوكهم ، من أن يضبطوا مشاعرهم وعواطفهم 0

5ـ الاضطرابات Disorders : يقول ( جلاسر ) إن الاضطرابات تنشأ عند الشخص في حال فشل في تحقيق حاجاته كلها ، أو بعض منها مما يشكل له معاناة قد يخفيها ، وقد يظهرها 0 ودور الإرشاد هنا هو الكشف عن هذه المشكلات ، ومن ثم مساعدة المسترشد على إيجاد حل لها 0

وقد حدد ( جلاسر ) أسباب اضطراب السلوك ، وهي :

1ـ نقص إشباع الحاجات للفرد ، أو فشله في إشباعها 0

2ـ ارتفاع المعايير الأخلاقية للمريض بدرجة غير واقعية 0

3ـ فشل الفرد في القيام بدوره الاجتماعي الموكل إليه 0

4ـ ضعف أو انعدام المسؤولية لدى الفرد ( اللامبالاة ) 0

5ـ إنكار الواقع ، أو فقدان الاتصال بالواقع 0

• تطبيقات النظرية :

تتلخص أهم إجراءات عملية الإرشاد بالواقع فيما يلي :

1ـ إقامة علاقة إرشادية : وأساسها المشاركة ، والاندماج ، والاهتمام ، وكسب ثقة العميل ، ومصادقته 0 وهذا يتطلب المودة ، والدفء ، والتقبل ، والصبر ، في مناخ يسوده الفكاهة ، وإحياء الأمل عند العميل ، وتشجيع العميل على التعبير حول حاجاته التي لم يشبعها 0

2ـ دراسة السلوك الحاضر : ويكون التركيز على السلوك الحالي للعميل ( هنا والآن ) ، وخاصة السلوك غير الواقعي ، وعدم التركيز على الماضي ، مع نظرة مستقبلية تتيح فرصة وضع خطة أفضل للمستقبل 0

3ـ تقييم السلوك الحاضر : أي مواجهة ما هو موجود في الواقع ، وتقييم السلوك الحالي ومدى مسايرته للواقع ، ومدى إشباعه للحاجات ، ومدى مسايرته للمعايير الاجتماعية 0 ويقوم بذلك العميل ، ولا يصدر المرشد أحكاما ، بل يساعد العميل على إصدار أحكام واقعية 0

4ـ التخطيط للسلوك الواقعي المسؤول الصائب : أي وضع خطة تتضمن تحديد احتمالات ، وبدائل السلوك الواقعي ، المسؤول ، الصائب ، المشبع للحاجات 0 ويجب أن تكون الخطة محددة وواضحة ، ومنطقية ، وقابلة للتنفيذ 0

5ـ التعاقد على الالتزام بالخطة : وهنا يتم التعاقد بين الطرفين على الالتزام بالخطة الموضوعة التي تؤكد التزام العميل بتحمل المسؤولية ، لتغيير سلوكه إلى سلوك صائب ، لإشباع حاجاته في ضوء الواقع 0

6ـ تقييم جدية الالتزام : وهنا يتم تقييم جدية الالتزام بالخطة ، وتقييم النتائج السلوكية لتنفيذ الالتزام 0 وعلى العميل أن لا يقدم الأعذار التي تعفيه من مسؤولية تنفيذ الاحترام 0 وعلى المرشد أن لا يتقبل الأعذار 0

7ـ تعليم وتعلم السلوك الملتزم : ويتضمن ذلك إتاحة الخبرات ، وتقديم المعلومات 0 وهنا يتم تعزيز السلوك الملتزم ، وتعزيزه ، وتدعيمه ، وتصحيح الذات عند ارتكاب الأخطاء 0

8ـ المثابرة حتى يتحقق الهدف : يحب المثابرة ، وعدم الاستسلام من جانب الطرفين ، حتى يتحقق الهدف 0 وحتى إذا فشلت الخطة ، وجبت المحاولات مرات عديدة 0

• نقد النظرية :

نظرية العلاج بالواقع لوليام جلاسر فيها من القوة والضعف ، وفي البداية سأذكر جوانب القوة التي تتميز بها نظرية العلاج بالواقع 0

أولا ـ جوانب القوة :

1ـ نظرية العلاج بالواقع ، نظرية سهلة التطبيق ، وتتصف بالمرونة التي تلائم المرشد ، والمسترشد على السواء 0

2ـ يكون الإرشاد فيها متمركزا حول المسترشد ، ودور المرشد هنا مساعد 0

3ـ نظرية العلاج بالواقع لا تنظر إلى ماضي العميل أو المسترشد ، لأن الماضي لا يمكن تغييره في ضوء هذه النظرية 0 وهي في هذه النقطة تخالف نظرية التحليل النفسي التي تهتم بماضي العميل 0

4ـ تتصف نظرية العلاج بالواقع بالجدية في إجراءات تطبيقها مع زرع ثقة العميل بنفسه ، لكي يقوم هو بحل مشكلاته 0

5ـ نظرية العلاج بالواقع ، صالحة كجانب وقائي ، وعلاجي على حد سواء 0

6ـ اعتمادها بصورة رئيسية على المعرفة والحقيقة في الإرشاد 0

7ـ يمكن استخدامها في عدد من الجلسات ومع أعداد مختلفة من الأفراد ، أي في الإرشاد الجمعي 0

8ـ يمكن استخدامها مع جماعات صغيرة أو كبيرة ، كما هو الحال في غرفة الفصل الدراسي 0

9ـ يمكن استخدامها في حل المشاكل التعليمية ابتداء من الروضة ، وحتى المدارس الثانوية 0

10ـ يمكن استخدامها من قبل الآباء والمعلمين خلال وقت قصير وبفاعلية 0

11ـ تعتبر فعالة في معالجة الأفراد الذين صنفوا على أنهم يصعب التعامل معهم ، مثل : الجنوح ، والمنحرفين ، والفصاميين ، والمكتئبين ، والمدمنين على المخدرات ، والصراعات الزوجية ، والذهان ، وفي حالات التوتر 0

ثانيا ـ جوانب الضعف في نظرية العلاج بالواقع :

1ـ صعوبة استخدام العلاج بالواقع مع بعض حالات التخلف العقلي ، وحالات الاجترارية الذاتية في الأطفال Autism ، وكذلك مع حالات الأمراض الذهانية ، وحيث توجد اضطرابات في الجوانب المعرفية 0

2ـ تركز نظرية العلاج بالواقع على السلوك وتقلل أهمية المشاعر وترى أن السلوك هو الأهم في الاهتمام وفي التغيير ، وهذا التركيز يتعارض مع رؤية نظريات نفسية أخرى 0

3ـ لا توجد أساليب محددة يستند إليها المرشد في محاولاته لتغيير السلوك بخلاف مساعدة المسترشد على الوفاء بخطة التغيير 0

4ـ التعارض الذي تشتمل عليه النظرية بين الدور الذي تلعبه المسؤولية ، والدور الذي يلعبه الاندماج في تكوين هوية النجاح ، أو تكوين هوية الفشل 0 فعلى حين ترى أن الاندماج شرط مبدئي للوفاء بالحاجات ، فإنها تقرر أن الفرد لديه القدرة على الوفاء بحاجاته بمسؤولية ، ودون شروط مسبقة 0

5ـ ترى النظرية أنه يمكن توجيه النقد من جانب المسترشد للمرشد ، وإمكانية أن يطرح المرشد مشكلاته على المسترشد لا يتسق مع ما تفرضه معظم النظريات من وجود حدود مهنية بين المرشد والمسترشد ، وضرورة أن تكون العلاقة مهنية 0

6ـ ما أشار إليه ( جلاسر ) على أنه صحيح أو الحق ، لم يحدد لنا معياره ، وإنما تركه للمعايير الأخلاقية التي يراها المرشد ، ولاستبصارات المسترشد بمعايير المجتمع 0 وبهذا فإنها يمكن أن تشتمل على جوانب ذاتية للمرشد قد لا تكون هي الصحيح دائما 0

7ـ المدى الواسع الذي يقرره ( جلاسر) لإمكانيات طريقته في العمل مع عديد من الحالات 0 بينما نجد أن الاستخدامات الحقيقية للإرشاد بالواقع ، أو العلاج بالواقع لا تخرج عن إطار المدارس والمؤسسات الإصلاحية والتعليمية بصفة خاصة 0

8ـ إن ترك الحكم على السلوك للمسترشد وحده قد يستغرق وقتا طويلا ، وربما لا يحدث إطلاقا إذا كانت هناك مشكلات معرفية ( عقلية ) لدى هذا الشخص 0