وقبل هذا سوف أتحدث عما يلي :
يتفق المشتغلون بالتوجيه والإرشاد على أن المرشد الطلابي بحاجة كبيرة للتعرف على النظريات التي يقوم عليها التوجيه والإرشاد وذلك يعود لأهمية تطبيقها أثناء الممارسة المهنية للعمل الإرشادي حيث أن هذه النظريات تمثل خلاصة ما قام به الباحثون في مجال السلوك الإنساني والتي وضعت في شكل إطارات عامه تبين الأسباب المتوقعة للمشكلات التي يعاني منها المسترشد كما ترصد الطرق المختلفة لتعديل ذلك ا لسلوك وما يجب على المرشد القيام به لتحقيق ذلك الغرض .
مفهوم النظرية :
هي مجموعة متكاملة متناسقة من المعلومات التي يفترض من خلالها فهم و تفسير معظم الظواهر السلوكية, وتقوم على مسلمات و افتراضات علمية موضوعية. وعلى خلاصة جهد الباحثين في فهم السلوك البشري 0
دور النظرية في الإرشاد:
تلعب النظرية دورا هاما في الإرشاد ، فهي تمدنا بالتالي :
1ـ فهم ملائم للسلوك الإنساني .
2ـ فهم السلوك السوي و السلوك المضطرب و أسباب اضطرابه.
3ـ تمنحنا طرقا و أساليب لتعديل السلوك المضرب و علاجه .
خصائص النظرية الجيدة:
1ـ الوضوح : حيث تشمل عدة إجراءات تضمن وضوحها مثل التعريفات,عدم تناقض المسميات.
2ـ الشمولية: تغطي الظواهر السلوكية و لا تقتصر على الحالات الشاذة.
3ـ قابليتها للبحث و التحقق: يمكن التأكد من فروضها و مفاهيمها و صلاحيتها عبر الأيام.
4ـ القابلية للتطبيق و الممارسة: تساعد الممارسين على تطبيق أساليبها في تعديل السلوك.
5ـ تحقيق الفائدة العلمية: حيث تقدم خدمات تطبيقية واسعة.
1ـ النظرية الأولى : النظرية الإسلامية
العلاج النفسي في الإسلام :
غالبا ما تتمثل الصراعات النفسية في التناقض بين قوى الخير والشر، وبين الغرائز والمحرمات ، من ذلك الشعور بالذنب والخطأ الذي كثيرا ما يتسبب في القلق والفزع والعدوان واضطراب الطبع والسلوك . بيد أن أصول الشخصية الأساسية في البيئة الإسلامية لا تزال ترتكز على القيم الحضارية المنبثقة من تعاليم الإسلام لأن هذه القيم تبقى من العناصر الرئيسية الواقية من المرض النفسي والمخففة لوطأته عند حدوثه . وقد أكد الكثير من علماء الإسلام على مفعول تعاليم الدين بقصد ترضية النفس واطمئنانها بواسطة التوبة والاستبصار واكتساب الاتجاهات الجديدة الفاضلة ، وأن شخصية المسلم ترتكز على الإيمان بالقضاء والقدر والبر والتقوى وعلى مسئولية الاختيار وطلب العلم والصدق والتسامح والأمانة والتعاون والقناعة والصبر والاحتمال والقوة والصحة 000الخ 0
وكل هذه الخصال تشجع على إنماء الشخصية واكتمالها بقصد السعادة النفسية الشاملة . ومن هنا يتجلى مفعول العلاجات التقليدية في البيئة الإسلامية ، الأمر الذي يفرض على الأطباء المحدثين أن يأخذوا هذه الطرق بعين الاعتبار ويدرسونها كي تستفيد ممارستهم الخاصة بتعاليمها وبذلك يحصل التنسيق والتكامل المنشود 0 والصحة النفسية تهدف إلى تنمية الفرد وجعله قادرا على نشاط مثمر وربط علاقات سوية مع الغير مع التمتع بإرادة ثابتة وعقيدة مثلى ليعيش في سلام وسعادة مع نفسه وذويه والمجتمع بصفة عامة . وإن الصراعات الباطنية التي يخوضها المرء طيلة حياته من شأنها أن تتسبب في اضطرابات نفسية شديدة إن لم يقع حلها بصفة مرضية وأخطر الصراعات تتمثل في الأنانية المفرطة والرغبات الملحة لتحقيق الشهوات مهما كانت الطرق والحيل المستعملة لهذا الغرض. وقد أجمع الكثير من العلماء على أن الخطأ هو في الذنب والألم الذي يشعربه الإنسان نتيجة ما ارتكبه من أعمال سيئة وقذرة . وتعتبر هذه العقدة العنصر الأساسي لتكوين العصابات أي ( الأمراض العصبية ) ، باعتبار أن مظاهر سوء التوافق النفسي تمثل أمراض الضمير بل هي حيلة دفاعية للهروب من تأنيب الضمير . ومن أهم الأعراض النفسية المرضية : مشاعر القلق ، والحصر ، والشعور بالذنب ، والخطأ ، أو بالعكس ، العدوان ، والظلم ، والسلوك المضطرب ، والمنحرف الخارج عن الإقليم والمقاييس الاجتماعية 0 ومن هنا نفهم الروابط والفوارق التي تقوم بين القيم الدينية والتحاليل النفسية الفرودية مثلا حيث أن النظرية الفرويدية يمكن أن تؤدي إلى سيطرة الغرائز الجنسية في كل الحالات ، ولربما تشجع على ذلك في مفهومها السطحي الشائع بينما تحث القيم الدينية على التحكم في الدوافع والتغلب عليها بسيطرة النفس الفاضلة الضمير وهو الأنا الأعلى عند فرويد ونفهم إذن كيف لا يسعنا في مجتمعنا العربي الإسلامي وقد أثبتت ذلك تجربتنا الطويلة إلا أن نتماشى مع هذه القيم الدينية الأصيلة التي لا تزال قائمة في النفوس بشكل من الأشكال ، وتعالج عادة الفرد من الصراع الذي يتخبط فيه انطلاقا من هذه المقاييس 0 وكثيرا ما يكون المريض يفهم خطابنا هذا ولا يفهم كلاما آخر مثل الكلام الغامض المعقد الذي نستخرجه من بعض النظريات شبه العلمية الغربية المصدر والتي لا تنفك باقية يوما بعد يوم عرضة إلى الانتقاد والمراجعة في المجتمع الغربي نفسه 0 زد على ذلك كشرط تقني أساسي للتشخيص والعلاج ، ضرورة فهم المريض من الداخل والتماشي معه يعني مع اعتقاداته وقيمه وإجمالا مع قواعد شخصيته الأساسية وهو السبيل الأفضل لمعاينته الدقيقة ولتركيز تشخيص مرضه بصفة قويمة ثابتة. هذا وإن الدين الإسلامي كثيرا ما يكون وسيلة لتحقيق الإيمان والسلام النفسي وهو إيمان وأخلاق وعمل صالح وهو الطريق إلى سيطرة العقل وإلى المحبة والسبيل القويم إلى القناعة والارتياح والطمأنينة والسعادة والسلام 0 وقد كتب وحلل وألف الكثير من الأطباء والعلماء المسلمين في مجال السعادة النفسية ، وإن كل المذاهب الفلسفية الإسلامية التي تعرضت إلى فهم الروح وتحليل جوهرها وماهيتها قد أتت كما هو معلوم بتعاليم قيمة لتحقيق الاطمئنان للأفراد والجماعات، عبر الزمان والمكان 0 ولنذكر إجمالا هنا تعاليم الخلفاء الراشدين ورجال التصوف وأعلام الفلسفة والفقه والمنطق الإسلامي الذين أصبحت تحاليلهم قدوة للنهضة الفكرية بالغرب أمثال الكندي والفارابي والرازي وابن سينا والغزالي وابن رشد وابن النفيس وإسماعيل الجرجاني وابن رشد وابن العربي وابن الجزار ومحمد الصقلي وغيرهم 0
1ـ طريقة العلاج الديني :
يضع البعض ( العلاج الديني ) الذي يقوم على مبادئ روحية سماوية مقابل ( العلاجالنفسي الدنيوي ) الذي يرتكز على السعادة في دار الدنيا بكل جوانبها المادية والأدبية ويقصد بذلك طرق العلاج التي تقوم على أساليب ومفاهيم وضعها البشر ولو كانت نفسية المصدر والأهداف لكن الدين يوفر أحيانا الأمن الذي قد لا تستطيع أساليب علم النفس المعاصر أن توفره ، ومع ذلك ففي طرق العلاج النفسي الدنيوي نجد بعض أعلامه يؤمنون بأن الدين عامل هام في إعادة الطمأنينة إلى النفس 0 فقد أكد ( كارل يونج ) أهمية الدين وضرورة إعادة فرص الإيمان والرجاء لدى المريض ، وأكد ( ستيكل ) أهمية تدعيم الذات الأخلاقية على هذا الأساس 0 ومن ذلك يصبح العلاجالنفسي الديني أسلوب توجيه وإرشاد وتربية وتعليم 0 ويقوم على معرفة الفرد لنفسه حسب المبادئ الروحية والأخلاقية العقائدية 0 ويمكن أن يمارس العلاج الديني كل من المعالج النفسي والطبيب النفساني وكذلك المربي وحتى رجل الدين على شرط أن يكون هؤلاء على دراية بأمر المصاب ويقع إرشادهم وتطلب مشاركتهم في هذا المجال من طرف الطبيب النفساني الحديث ، وهذا الأمر يجري العمل به مثلا في عديد من المصحات النفسية التي تعالج بأوروبا ( محاولات الانتحار ) مثل : مصحة فيينا المختصة بحالات الطوارئ الانتحارية ، ذلك لأن العلاج النفسي الديني ككل العلاجات النفسية بمثابة عملية يشترك فيها المعالج والمريض معا ولنحلل تيسير العلاج الديني على أساس :
1ـ الاعتراف :
وهو يتضمن شكوى النفس طلبا للغفران ، وكثيرا ما يستعمل الفرد الوسائل الدفاعية اللاشعورية مثل : الإنكار ، والإسقاط ، والتحويل ، أو التبرير وغيرها ، كي يخفف التوتر الذي ربما ينتج عن الشعور بالذنب والخطأ ، وعلى المعالج أن يحلل ذلك بكل دراية في الوقت المناسب وبالصيغة المناسبة 0 لذا فاعتراف المريض يزيل مشاعر الخطيئة والإثم ويخفف من عذاب الضمير فيطهر النفس المضطربة ويعيد إليها طمأنينتها 0 ولذلك يجب على المعالج مساعدة المريض على الاعتراف بخطاياه وتفريغ ما بنفسه من مشاعر الإثم المهددة ، على أن يتقبل المعالج ذلك في حياد ، ويتبع الاعتراف الرجوع إلى الحق والفضيلة والتوازن النفسي السليم مع الذات 0
2ـ التوبة :
وهي تناشد المغفرة وتمثل أمل المخطئ الذي تحرر من ذنوبه فيشعر الفرد بعدها بالتفريغ النفسي والانفراج 0 والتوبة كما يقول الغزالي (في إحياء علوم الدين) لها أركان ثلاثة : علم وحال وفعل ، فالعلم : هو معرفة ضرر الذنب المخالف لأمر الله ، والحال : هو الشعور بالذنب ، والفعل : هو ترك الذنب والنزوع نحو فعل الخير 0 والمعروف أن حجة الإسلام الإمام الغزالي يعتبر من رواد مؤسسي علم النفس الإسلامي ويقول الله عز وجل: { قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم } 0 ويقول رسول الله عليه الصلاة والسلام : (التائب حبيب الرحمن والتائب من الذنب كمن لا ذنب له ) . ومن هنا نفهم مدى أهمية الالتجاء إلى هذه المفاهيم كي يعالج ( العصابي المسلم ) من صراعاته والمكتئب من يأسه وتذنيب ذاته وكذلك السيكوباتي من تكرار أعماله العدوانية الشنيعة وذنوبه المتكررة 0
3ـ الاستبصار :
ومعناه الوصول بالمريض إلى فهم أسباب شقائه ومشكلاته النفسية وإدراك الدوافع التي أدت به إلى حالته المضطربة وفهم ما بنفسه من خير وشر ، وتقبل المفاهيم الجديدة مستقبلا بصدر رحب ، ويعني هذا نمو الذات البصيرة . وقال تعالى في هذا الصدد : { بل الإنسان على نفسه بصيرة } . وهذه الطريقة المثلى كثيرا ما تستعمل في عديد من مظاهر العلاجات النفسية المعاصرة بما فيه التحليل النفسي الفرويدي أو طريقة كارل روجيرس 000الخ 0
4ـ اكتساب اتجاهات وقيم جديدة :
من خلال ذلك يتم تقبل الذات وتقبل الآخرين والقدرة على تحمل المسئولية وعلى تكوين علاقات اجتماعية مبنية على الثقة المتبادلة والقدرة على التضحية وخدمة الآخرين ، وكذلك اتخاذ أهداف واقعية وإيجابية والحياة مثل القدرة على الصمود والعمل المثمر والإنتاج 0 وهكذا تتم تنقية الضمير (أو الأنا الأعلى) كسلطة داخلية أو رقيب نفسي على السلوك ويتم تطهير النفس وإبعادها عن الرغبات المحرمة واللا أخلاقية واللا اجتماعية ويستقيم سلوك الإنسان بعد أن تتبع السيئات الحسنات فتمحوها وقال تعالى : { وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات ذلك ذكرى للذاكرين } وقال أيضا : { يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية، فادخلي في عبادي وادخلي جنتي } .
• استخدامات العلاج النفسي الديني :
هذا ويمكن اليوم حسب ما أكدته لنا التجارب استخدام العلاج النفسي الديني في البلاد العربية والإسلامية ، وبصفة خاصة والحالات التي يتضح أن أسبابها وأعراضها تتعلق بالسلوك الديني للمريض ، بالإضافة إلى الهذيانات الدينية نفسها بل في غالب الحالات فإن العلاج الديني يفيد كثيرا في نوبات القلق والوسواس والهستيريا وتوهم المرض أو داء المراق والخواف والرهاب والاضطرابات الانفعالية ، ومشكلات الزواج وكل الصراعات الفتاكة المبنية على التكالب عن ، ملذات دار الدنيا أو على الهرب في وضعية اليأس والانهيار النفسي ، وخاصة الإدمان على الكحول الذي يحرمه الدين وحالات الاكتئاب والتشاؤم والمسالك الانتحارية المحرمة أيضا بتاتا في القرآن والحديث ، وحتى الوضعية السيكوباتية التي هي مشهورة بشدة تأصلها وصعوبة علاجها 0
• قواعد التربية الدينية في الإسلام :
إن التربية بمعناها الواسع تشمل عادة صفة من صفات التربية الدينية لاسيما في بلادنا العربية والإسلامية وهي منبثقة من المحيط الأطلسي سواء من الأبوين أو من المدرسة ، ذلك أن تربية الشخص تتضمن تقويمه في حدود إطار أخلاقي للسلوك وإن القيم الروحية والأخلاقية المنبثقة من تعاليم الإسلام كثيرا ما تهدي الفرد إلى الاستقامة والسلوك السوي ولقد قيل " من يسلك بالاستقامة يسلك بالأمان " وفي كل الأحوال يبقى مشكل ، سلوك الإنسان مرتبطا بمكارم أخلاقه إن الأخلاق المستمدة من الدين تنظم سلوك الإنسان وتهديه إلى الصراط المستقيم وتحاسبه إن هو أخطأ أو انحرف. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق ) وقال على بن أبي طالب رضي الله عنه : " نعم الحسب الخلق الحسن " . وحسن الأخلاق يتماشى مع الاستقرار النفسيوترضية الضمير والكف عن السباق نحو شهوات الدنيا وما ينتج عن ذلك من حسد وحقد وصراع بين الأشخاص وفي نفسيه الفرد بذاته 0
• شخصية المسلم واطمئنان النفس :
إذا أردنا استعراض سمات شخصية المسلم كما حددها الدين لاستغرقنا في الحديث طويلا فلنكتف ببعض نماذج تستخلص من كلام الله عز وجل وحديث رسوله عليه الصلاة والسلام حول سمات شخصية المسلم :
1ـ الإيمان بالقدر والمكتوب : قال تعالى : ( قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا هو مولانا وعلى الله فليتوكل المؤمنون ) 0وهنا ينبغي أن يفسر هذا القول دوما بصفة إيجابية كحث على قبول المصائب بصدر رحب دون الالتجاء إلى مظاهر اليأس والوهن والانهيار أو دون الالتجاء إلى السلوك العدواني المعاكس أو التهجمات المفرطة التي لا يحمد عقباها ، ولا يعني ذلك الاستسلام بل العمل على أن نتعدى أمرنا ونقفز بعد ذلك إلى الأمام لنتغلب على الشدائد والمصائب 0
2ـ مسئولية الاختيار : قال تعالى : { بل الإنسان على نفسه بصيرة } ، وهنا تتجلى حرية الفرد في اختيار مواقفه وسلوكه بكل دراية وهو هدف عديد من العلاجات النفسية المعاصرة.
3ـ طلب العلم : قال الله تعالى : { فتعالى الله الملك الحق ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه وقل رب زدني علما } ، ويتضمن ذلك قابلية المؤمن للتوعية والإرشاد
4ـ الصدق : قال تعالى : { يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين } ، والصدق فضيلة هامة جدا يرتكز عليها اطمئنان النفس إلى حد بعيد ، ويقاس به مدى انهيارها إذا خلفت ذلك ، من ذلك أن بعض الأخصائيين في علم النفس الحديث قد اخترعوا ركائز لقياس مقدرة الفرد على الصدق والإخلاص ( استخبار الصدق لهنري باروخ ) 0
5ـ التسامح : قال الله تعالى : { ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه كأنه ولي حميم } ، والتسامح من الفضائل الهامة لاطمئنان النفس ونيل الارتياح 0
6ـ الأمانة : قال تعالي : { إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل إن الله نعما يعظكم به إن الله كان سميعا بصيرا } 0
7ـ الرحمة : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( الراحمون يرحمهم الرحمن ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء ) ، وهذه الخصال الحميدة لها وزن كبير في سلوك الأفراد الأسوياء والمرضى في آن واحد ، ولنذكر هنا بطاعة الوالدين والعناية بهما وبضرورة حسن معاملة الأولياء لأبنائهم ولذويهم على أسس المحبة والرحمة 0
8ـ التعاون : قال الله تعالى : { وتعاونوا على البر والتقوى } ، وقال أيضا : { إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم واتقوا الله لعلكم ترحمون } ، وقال أيضا : { والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويطيعون الله ورسوله أولئك سيرحمهم الله إن الله عزيز حكيم }، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه ) 0 وفي ذلك أعظم العبر وأسمى التعاليم للتوافق الأسري والاجتماعي الذي ترتكز عليه قواعد الصحة النفسية 0
9ـ القناعة : وهي من أفضل الخصال البشرية التي تنهي عن التناطح العنيف نحو تحقيق السعادة المادية التي لا حد لها ، والتشبع بقيم التنافس القاسي الذي لا رحمة فيه لأحد والذي يتصف به من سوء الحظ عديد من مظاهر المجتمعات العصرية المرتكزة على قاعدة الاستهلاك شرقا وغربا ، وقد ازدادت في هذه المجتمعات الأمراض النفسية في الكم والكيف كما هو معروف 0 أما القناعة فهي تعالج الاضطرابات النفسية الناجمة عن الحقد والغيرة وكراهية الغير المنافس ، ومن جهة أخرى السلوك المنحرف الناتج عن الإحباط وما ينتج عنه من سوء التوافق الفردي مع الذات ومع الغير ، وإن كان المسلم يحمد الله فليس لغرض غير غرض السعادة الروحية والاطمئنان وقبول حالته بصدر رحب مع الملاحظ أن ذلك لا يعني الاستسلام والفشل والركود في الذل والخسارة والخصاصة ، بل إن القيم الأخلاقية الإسلامية تشجع كما هو معروف من جهة أخرى على الإقدام والإنتاج والابتكار لكن بدون أن تستعمل في ذلك وسائل القهر والعنف والحيل الظالمة والرذائل المكروهة بصفة عامة 0
10ـ الصبر : قال تعالى : { يا أيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر والصلاة إن الله مع الصابرين } ، وقال تعالى : { وبشر الصابرين } 0 ويا لها من عبرة فائقة في هذا الصدد حيث تتكاثر الأمثلة في مجال الطب النفسي التي تبرهن على أهمية الصبر والتحكم في النفس على هذا الأساس 0
11ـ العفة : قال تعالى : { وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى } 0 ومن هنا يتجنب الفرد الشر والرذائل على مختلف أنواعها 0
12ـ القوة والصحة : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف ) ، وقال أيضا عليه الصلاة والسلام : ( إن الله لم يضع داء إلا وضع له دواء ) 0 وفي ذلك تشجيع على تقوية النفس وتسييرها نحو الإقدام والشجاعة ومزيد من الفاعلية والتفاؤل للخير مستقبلا وكذلك بقصد تجنب كل بوادر اليأس والانهيار هذا وينبغي للطبيب النفسي المسلم المعاصر أن يفهم كل هذه التعاليم والقيم في مظاهرها الإيجابية الفاضلة وفي غاية من الاتزان والاعتدال ، ليتمكن من تحقيق التوافق النفسي والرقي البشري للفرد والجماعات في كل المجالات . ومن هنا نستخلص في آخر الأمر قوة مفعول العلاجات التقليدية النفسية التي تستعمل إلى يومنا هذا في كل الأقطار العربية الإسلامية في زوايا الأولياء الصالحين ، ومن طرف المعالجين التقليديين غير الأطباء الذين يبرهنون أحيانا على مهارة مدهشة وعلى تحكم دقيق في أساليب علاجاتهم الروحانية هذه بينما يعجز بعض الأطباء المحدثين 0 على أن هؤلاء المعالجين يتصفون أحيانا بالشعوذة والتدجيل من سوء الحظ وعلى الطبيب المعاصر الماهر أن يغربل ما بين الفضائل والرذائل وما بين اللب والقشور ، ويستخلص من كل هذه الطرق العبرة والمفاهيم الصحيحة ليركز المريض على أساس إيجابي انطلاقا من اعتقاداته الأصلية وفي فائدته أولا وبالذات 0
• الوقاية الدينية من المرض النفسي :
ومن ذلك كله يتجلى أن الإيمان كثيرا ما يكون العقيدة المثلي والسلوك الصالح لاستقرار الأنا واطمئنان النفس ، لكن السلوك الذي يخرج عن الدين أو بالعكس الذي يأخذ شكل العبادة المفرطة يصل أحيانا أمرا خطيرا قد يؤدي إلى الشذوذ والانحراف وإلى مشتبكات نفسية معقدة ومن ذلك ينبغي أن تتضمن الوقاية من المرض النفسي في البيئة العربية الإسلامية الاهتمام بالتربية الأخلاقية، وبتركيز القيم الدينية كدعامة للسلوك السوي وكشرط أساسي للتوافق النفسي والاجتماعي . والمعروف، أن الدين الإسلامي يوحي بالاهتمام بالحياة الدنيا والآخرة، وبإحداث توازن بين الملذات والماديات والأخلاقيات والروحانيات كي يتم التوافق النفسي . ولقد قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه " اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدا واعمل لآخرتك كأنك تموت غدا ". ولنختم كلامنا بقول الشيخ الرئيس ابن سينا الذي أشار إلى أن أنفع البر هي الصدقة وأزكى السر هو الاحتمال، وخير العمل ما صدر عن خالص نية، وخير النية ما صدر عن الحكمة والفضائل وعن معرفة الله أول الأوائل 0
• القرآن والهدوء النفسي :
قال تعالى : { الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون }الأنعام 0
الحياة كنوز ونفائس أعظمها الإيمان بالله ، وطريقها منارة القرآن الكريم فالإيمان إشعاعه أمان ، والأمان يبعث الأمل ، والأمل يثمر السكينة ، والسكينة نبع للسعادة ، والسعادة حصادها أمن وهدوء نفسي ، فلا سعادة إنسان بلا سكينة نفس ، ولا سكينة نفس بلا اطمئنان القلب 0 مما لا شك فيه أن كلاً منا يبحث عن السعادة ويسعى إليها ، فهي أمل كل إنسان ومنشود كل بشر والتي بها يتحقق له الأمن النفسي 0 والسعادة التـي نعنيها هي السعادة الروحية الكاملة التـي تبعث الأمل والرضا ، وتثمر السكينة والاطمئنان ، وتحقق الأمن النفسي والروحي للإنسان فيحيا سعيداً هانئاً آمناً مطمئناً 0 وليس الأمن النفسي بالمطلب الهين فبواعث القلق والخوف والضيق ودواعي التردد والارتياب والشك تصاحب الإنسان منذ أن يولد وحتى يواريه التراب0 ولقد كانت قاعدة الإسلام التي يقوم عليها كل بنائه هي حماية الإنسان من الخوف والفزع والاضطراب وكل ما يحد حريته وإنسانيته والحرص على حقوقه المشروعة في الأمن والسكينة والطمأنينة وليس هذا بالمطلب الهين فكيف يحقق الإسلام للمسلمين الأمن والسكينة والطمأنينة. إن الإسلام يقيم صرحه الشامخ على عقيدة أن الإيمان مصدر الأمان، إذن فالإقبال على طريق الله هو الموصل إلى السكينة والطمأنينة والأمن ، ولذلك فإن الإيمان الحق هو السير في طريق الله للوصول إلى حب الله والفوز بالقرب منه تعالى. ولكن كيف نصل إلى هذا الإيمان الحقيقي لكي تتحقق السعادة والسكينة والطمأنينة التي ينشدها ويسعى إليها الإنسان لينعم بالأمن النفسي. إننا نستطيع أن نصل إلى هذا الإيمان بنور الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، ونور الله هنا هو القرآن الكريم الذي نستدل به على الطريق السليم ونأخذ منه دستور حياتنا . . وننعم بنوره الذي ينير القلب والوجدان والنفس والروح والعقل جميعاً . أليس ذلك طريقاً واضحاً ووحيداً لنصل إلى نعمة الأمن النفسي ؟ لقد عُنـي القرآن الكريم بالنفس الإنسانية عناية شاملة . . عناية تمنح الإنسان معرفة صحيحة عن النفس وقاية وعلاجاً دون أن ينال ذلك من وحدة الكيان الإنساني ، وهذا وجه الإعجاز والروعة في عناية القرآن الكريم بالنفس الإنسانية ، وترجع هذه العناية إلى أن الإنسان هو المقصود بالهداية والإرشاد والتوجيه والإصلاح. فلقد أوضح لنا القرآن الكريم في الكثير من آياته الكريمة أهمية الإيمان للإنسان وما يحدثه هذا الإيمان من بث الشعور بالأمن والطمأنينة في كيان الإنسان وثمرات هذا الإيمان هو تحقيق سكينة النفس وأمنها وطمأنينتها. والإنسان المؤمن يسير في طريق الله آمناً مطمئناً ، لأن إيمانه الصادق يمده دائماً بالأمل والرجاء في عون الله ورعايته وحمايته ، وهو يشعر على الدوام بأن الله عز وجل معه في كل لحظة ، ونجد أن هذا الإنسان المؤمن يتمسك بكتاب الله لاجئاً إليه دائماً ، فهو بالنسبة له خير مرشد بمدى أثر القرآن الكريم في تحقيق الاستقرار النفسي له. فمهما قابله من مشاكل وواجهه من محن فإن كتاب الله وكلماته المشرقة بأنوار الهدى كفيلة بأن تزيل ما في نفسه من وساوس ، وما في جسده من آلام وأوجاع ، ويتبدل خوفه إلى أمن وسلام ، وشقاؤه إلى سعادة وهناء كما يتبدل الظلام الذي كان يراه إلى نور يشرق على النفس ، ويشرح الصدر، ويبهج الوجدان . . فهل هناك نعمة أكبر من هذه النعمة التي إن دلت على شيء فإنما تدل على حب الله وحنانه الكبير وعطائه الكريم لعبده المؤمن. إن كتاب الله يوجه الإنسان إلى الطريق السليم ، ويرشده إلى السلوك السوي الذي يجب أن يقتدى به . . .يرسم له طريق الحياة التـي يحياها فيسعد في دنياه ويطمئن على آخرته. إنه يرشده إلى تحقيق الأمن النفسي والسعادة الروحية التي لا تقابلها أي سعادة أخرى ولو ملك كنوز الدنيا وما فيها. إنه يحقق له السكينة والاطمئنان ، فلا يجعله يخشى شيئاً في هذه الحياة فهو يعلم أنه لا يمكن أن يصيبه شر أو أذى إلا بمشيئة الله تعالى ، كما يعلم أن رزقه بيد الله وأنه سبحانه وتعالى قد قسم الأرزاق بين الناس وقدَّرها ، كما أنه لا يخاف الموت بل إنه حقيقة واقعة لا مفر منها ، كما أنه يعلم أنه ضيف في هذه الدنيا مهما طال عمره أو قصر، فهو بلا شك سينتقل إلى العالم الآخر، وهو يعمل في هذه الدنيا على هذا الأساس ، كما أنه لا يخاف مصائب الدهر ويؤمن إيماناً قوياً بأن الله يبتليه دائماً في الخير والشر، ولولا لطف الله سبحانه لهلك هلاكاً شديداً. إنه يجيب الإنسان على كل ما يفكر فيه ، فهو يمنحه الإجابة الشافية والمعرفة الوافية ، لكل أمر من أمور دينه ودنياه وآخرته. إن كتاب الله يحقق للإنسان السعادة لأنه يسير في طريقه لا يخشى شيئاً إلا الله، صابراً حامداً شاكراً ذاكراً لله على الدوام ، شاعراً بنعمة الله عليه . . يحس بآثار حنانه ودلائل حبه... فكل هذا يبث في نفسه طاقة روحية هائلة تصقله وتهذبه وتقومه وتجعله يشعر بالسعادة والهناء ، وبأنه قويٌ بالله . . . سعيدٌ بحب الله ، فينعم الله عز وجل عليه بالنور والحنان ، ويفيض عليه بالأمن والأمان ، فيمنحه السكينة النفسية والطمأنينة القلبية. مما سبق يتضح لنا أن للقرآن الكريم أثر عظيم في تحقيق الأمن النفسي ، ولن تتحقق السعادة الحقيقية للإنسان إلا في شعوره بالأمن والأمان ، ولن يحس بالأمن إلا بنور الله الذي أنار سبحانه به الأرض كلها ، وأضاء به الوجود كله . . . بدايته ونهايته ، وهذا النور هو القرآن الكريم. ويؤكد لنا القرآن الكريم بأنه لن يتحقق للإنسان الطمأنينة والأمان إلا بذكره لله عز وجل ، قال تعالى : (الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب) [الرعد:28] إذن علينا أن نتمسك بكتاب الله ونقتدي به ، ونتدبر في آياته البينات ، ونتأمل في كلماته التي لا تنفد أبداً ، قال تعالى : (قل لو كان البحر مداداً لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ولو جئنا بمثله مدداً) [الكهف:109] حتى نتحلى بالإيمان الكبير في هذه الرحلة الروحية مع آيات الله فنتزود بما جاء به القرآن الكريم من خلق عظيم ، وأدب حميد ، وسلوك فريد ، ومعرفة شاملة بحقيقة النفس الإنسانية كما أرادها الله عز وجل أن تكون ، وترتقي حيث الحب والخير والصفاء والنورانية ، فننعم بالسلام الروحي الممدود ، والاطمئنان القلبي المشهود والأمن النفسي المنشود 0
• رأي حول العلاج بالقرآن :
شاع في السنوات الأخيرة موضوع العلاج بالقرآن واختلط فيه الحابل بالنابل ، ومارسه أناس بسطاء ذوي نوايا طيبة غالباً وعلم بسيط, ومارسه أيضاً أناس مستغلون تستروا وراء قدسية القرآن ومارسوا خلفها كل الموبقات, وحدثت التباسات كثيرة كما هو حادث في كثير من أمور حياتنا منها أن القرآن شفاء للنفوس وبالتالي لا نحتاج لأي علاجات للأمراض النفسية غيره , ومنها أن المؤمنين لا يمرضون نفسياً وبالتالي فالمرضى النفسيين من هذا المنظور أشخاص ضعاف الإيمان وضعاف الإرادة. ومنها أن كل الاضطرابات النفسية وربما العضوية أيضاً تحدث نتيجة المس الشيطاني وتأثيرات السحر والحسد. والغريب أن هذه الأفكار والالتباسات لم تتسلل إلى عقول العامة والبسطاء فقط وإنما امتدت إلى عقول طبقات المتعلمين والمثقفين وربما العلماء , وأخطر ما في الأمر هو تستر كل هذا خلف الستار الديني المقدس وتلونه بالصفة الدينية ذات المكانة العالية لدى جموع الناس خاصة في مجتمعاتنا العربية والإسلامية , وذلك يجعل من يواجه هذا الركام أشبه بمن يمشي في أرض مليئة بالشوك والألغام. ويصاحب ذلك محاولة استدعاء كل الوسائل العلاجية القديمة التي استخدمت في عهد النبي صلى الله عليه وسلم أو في عهد الصحابة وتطبيقها في موضعها أو في غير موضعها بشكل تعميمي ، وإعطاء هذه الممارسات العلاجية صفة القداسة خاصة حين تنسب إلى الرسول صلى الله عليه وسلم حتى ولو كان النسب ضعيف أو إلى أحد صحابته الكرام , وينظر إلى هذه الوسائل العلاجية على أنها جامعة مانعة وبالتالي فهي تغني عن أي تدخلات طبية حديثة فالحجامة تغني عن كل الممارسات التشخيصية والعلاجية , وحبة البركة تجب كل الأدوية المرصوصة على أرفف الصيدليات , وقراءة القرآن على المرضى النفسيين تمحو كل الاجتهادات البشرية في العلوم النفسية والطب النفسي. والمتأمل للتاريخ الإسلامي لن يجد هذا الإلحاح وهذا الانتشار وربما الهوس حول هذه الأشياء في عهد النبوة أو في عهد الازدهار الحضاري الإسلامي , فلم نسمع أن العرب توافدوا جماعات إلى المدينة للتداوي من أمراضهم على أيدي الرسول صلى الله عليه وسلم أو على أيدي صحابته الكرام , ولم نسمع أن سيدنا عمر كان الناس يقفون على بابه بالآلاف ليقرأ عليهم كي يشفوا من أمراضهم , ولم نقرأ أن سيدنا أبي بكر رضي الله عنه جلس في بيته يستقبل آلاف الناس ليرقيهم ويوزع عليهم كوباً من الماء قد تفل فيه من ريقه ليشربوه وكوباً من الزيت قد تفل فيه أيضاً ليدَهنوا به. وكل ما حدث من ممارسات علاجية كانت اجتهادات في هذا العصر ولم تأخذ الشكل الجامع المانع , لأن الرسول صلى الله عليه وسلم نفسه كان يستخدم وسائل متنوعة في التداوي مثل عسل النحل , وحبة البركة , والحجامة وعصابة الرأس والرقية , ولم يدَع أن هذه الوسائل تلغي ما عداها أو ترقى على ما عداها وإنما كان يرسل المرضى إلى رفيدة الأنصارية تمرضهم أو إلى الحارث بن كلدة ليطببهم , ولو كانت الحجامة أو حبة البركة لها تأثير جامع مانع في كل الأمراض لما لجأ الرسول صلى الله عليه وسلم إلى هذه الوسائل المتعددة بلا حدود ولو كانت قراءة القرآن وحدها على المرضى تشفي كل الأمراض لما لجأ الرسول صلى الله عليه وسلم إلى بقية الوسائل. والمتأمل للوسائل العلاجية المتعددة التي كان يتداوى بها الرسول صلى الله عليه وسلم أو يداوي بها يجد أنها تشمل ما هو مادي وما هو روحي , لذلك فالادعاء بأن الوسائل الروحية فقط ومنها قراءة القرآن تشفي كل الأمراض البدنية والنفسية يصبح مجاوزاً للحقيقة ومجاوزاً للمنهج النبوي نفسه الذي يفتح الباب واسعاً لكل وسائل التداوي المعروفة في ذلك العصر والتي ستعرف في بقية العصور. إذن فما يحدث الآن هو نوع من التفكير الاختزالي الاعتمادي السحري المستسهل والذي يكتفي بما قيل بديلاً لإعمال الفكر والبحث والتنقيب والتجربة والاجتهاد . فنحن في مجتمعاتنا العربية والإسلامية نريد أن نعيش متطفلين على تراثنا الديني وعلى تراثنا الثقافي حتى لا نتعب أنفسنا في دراسة المشكلات الحياتية ومحاولة إيجاد حلول لها وهذا ينطبق على الأمراض وغيرها. والعجيب أن الأطباء المسلمين العظام مثل ابن سينا وابن النفيس والرازي وغيرهم لم يسلكوا هذا المسلك الاتكالي السحري الاستسهالي, فلم نجدهم يبالغون في استدعاء النصوص الدينية لحل المشكلات الصحية التي واجهوها في مرضاهم , وإنما قاموا بالتشريح والتجريب والتحليل والتركيب , وكانوا من الملاحظين والوَصافين العظام في التاريخ للعديد من المظاهر المرضية , ولم نجدهم يبالغون في مسائل الإعجاز الطبي للقرآن وهي حقيقة أو يبالغون في تعميم وسائل علاجية بعينها ويعطوها قداسة دينية , وإنما كانت عيونهم فاحصة ونظراتهم ممتدة (بلا نهاية وعقولهم تعمل كما أرادها الله أن تعمل , ولمْ يتستروا خلف لافتات دينية , ولم يكرسوا قيم السلبية والاعتمادية كما يفعل المعالجون بالقرآن الآن حين يطلبون من كل المرضى أن يستلقوا على ظهورهم ولا يفعلوا أي شيء فالمعالج سوف يفعل كل شيء بالنيابة عنهم لأن المعالج هنا يأخذ دور الأب المقدس والمريض هنا يأخذ دور الطفل الغرير الجاهل, وبالتالي فالمعالج والمريض يبتعدون عن الموقف الموضوعي الراشد في التعامل مع المرض ومع أنفسهم. وهذا الخلل الفكري الذي يقسم المجتمع إلى آباء مقدسين وملهمين وأبناء أطفال جاهلين وسفهاء واعتمادين ينتقل من الموقف العلاجي السائد في مجتمعنا إلى مواقف حياتيه أكثر اتساعاً. ونحن حين نتعامل مع القرآن على أنه مجرد مسكن موضعي أو وسيلة راحة فإننا نختزل قيمته العظيمة ونتغاضى عن رسالته العظيمة في تنظيم حياتنا الفردية وحياتنا الجماعية بما يحقق التوزان والتناغم مع الكون الأوسع ليس في الدنيا فقط وإنما في الدنيا والآخرة ، والقرآن يعطينا طمأنينة وراحة على مستويات متعددة نذكر منها :
1ـ المستوى الأول ـ الطمأنينة لمجرد سماعه حتى دون فهم وتدبر , فالتراكيب اللفظية والإيقاعات الصوتية المعجزة تجعلنا في حالة هدوء واسترخاء 0
2ـ المستوى الثاني ــ الإحساس بوجود الله : { الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ } الرعد : 28 0 ذلك الإحساس الذي يجعلنا نشعر أننا لسنا وحدنا في هذه الحياة وأن هناك قوة عظيمة وهائلة تساندنا وتحمينا وترعانا , وأن حياتنا البسيطة المحدودة ليست نهاية الكون وإنما هناك امتدادات وآفاق هائلة في المكان والزمان وبهذا ننتقل من ضيق الأفق البشري إلى اتساع ولا نهائية ملك الإله الأعظم وقدرته 0 وفي هذا تخفيف لحدة الكرب الذي نحياه بسبب ضغوط الحياة المختلفة واضطراب توافقنا مع الناس والأشياء 0
3ـ المستوى الثالث ــ التنظيم النفسي الفردي الذي يحقق التوازن بين كافة الاحتياجات والرغبات والدوافع فلا تطغى حاجة على أخرى ولا تلغي رغبة قيمة ولا ينفرد دافع متضخم بتحريك الشخصية لحسابه 0 ذلك التوازن النفسي الداخلي يتحقق بتبني المفاهيم القرآنية الصحيحة على المستوى الداخلي 0 قال تعالى : { وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارا } الإسراء 0
4ـ المستوى الرابع ــ التنظيم الجماعي على المستويات السياسية والاقتصادية والاجتماعية ذلك التنظيم الذي يحقق الشورى والعدل والتكافل الاجتماعي فيخفض بذلك من نزعات الغضب والقلق والحقد والكراهية , أي يحقق الطمأنينة الجماعية 0
5ـ المستوى الخامس ــ التناغم الكوني , فالإنسان على مستواه الفردي والجماعي هو جزء من كون واسع خلقه الله وسيره على ناموس دقيق , فإذا استوعب الإنسان القرآن وسار على منهجه الصحيح فإنه يتناغم في حركته مع الكون الأوسع 0
6ـ المستوى السادس ــ السعي نحو الله وهو قمة الطمأنينة : { يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ () ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً () فَادْخُلِي فِي عِبَادِي () وَادْخُلِي جَنَّتِي }الفجر 0 لأن النفس البشرية مفطورة على الشوق إلى لقاء الله خالقها ومبدعها لذلك فكلما اتجهت إليه شعرت بالأمان والطمأنينة وكلما ابتعدت عنه نتيجة تشوه الفطرة شعرت بالضيق والقلق والخوف ومن يعرض عن ذكر الله نجعل صدره ضيقاًَ حرجاً كأنما يصعّد في السماء أو تهوي به الريح في مكان سحيق 0 وهذه المستويات من الطمأنينة ليست عامة لكل الناس , فالقرآن يؤثر في النفوس وفي الجماعات حسب استقبالها له : { وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَاراً } الإسراء:82 0
وفي سورة فصلت بيان لاختلاف تأثير القرآن باختلاف المتلقي وطريقة تلقيه قال تعالى : { قل هو للذين آمنوا هدىً وشفاء والذين لا يؤمنون في آذانهم وقرُُ وهو عليهم عمىً } فصلت 44 0 وفي سورة الإسراء يقول تعالى : { وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ حِجَاباً مَّسْتُوراً () وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْراً وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْاْ عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُوراً } الإسراء 0 إذن فالقرآن يصبح شفاءً لمن يؤمن به ولمن يفقهه ولمن يعمل به , ومن هنا فمن لا يؤمن به لا يستفيد منه بل هو يزداد خسارة عند سماعه لأنه ينفر منه ويصبح ذلك حجة عليه , ومن لا يفقه القرآن ولا يعمل به ستتوقف استفادته عند الحدود الدنيا 0 والمريضالنفسي الذي يعاني من الفصام أو الاكتئاب أو أي مرض نفسي أخر يكون لديه اضطراب في كيمياء المخ ربما يؤدي إلى خلل في استقباله للقرآن فكأنه لا يسمعه أو يسمعه ولا يفهمه , أو يفهمه بشكل مرضي متأثراً بوساوسه القهرية أو ضلالاته أو هلاوسه المرضية , ولذلك نجد بعض المرضى النفسيين يتألمون أو ينفرون أو يعرضون حين يسمعون القرآن , وهم ليسوا مؤاخذين على ذلك لأنهم في أوضاع غير سوية تؤثر في إدراكهم واستقبالهم: فالمريض الاكتئابي مثلاً قد ينفر من أعز أبنائه ويضيق بالأشياء التي كان يعشقها ولذلك حين نرى ضيقه بسماع القرآن أو قراءته لا نحكم عليه بكراهية القرآن أو النفور منه لأنه يعيش ظروفاً استثنائية ترفع عنه الحرج في الكثير من الأشياء. والمريض الذهاني لا يفهم ما يسمع أو يفهم بطريقة مشوهه نتيجة اضطراب إدراكه وتفكيره . والمعالجون بالقرآن لا يراعون هذه الخصوصيات وهذه الفروق في العملية الإدراكية وفي عمليات الاستقبال للقرآن فهم يفرضونه قهراً على كل المرضى الذين يقصدونهم دون مراعاة لظروفهم النفسية وحالاتهم الوجدانية واستعداداتهم للتلقي فضلاً عن الفهم والعمل. وهناك احتمالات تقديس المعالج بالقرآن والارتكان إلى بركاته وكراماته وقدراته الهائلة في دفع المرض ودفع القوى الخفية كالجن والسحر والحسد , وفي هذا خطر شديد على الاعتقاد الديني للشخص حيث يتوجه إلى بشر ضعيف مثله طالباً الخلاص على يديه وخطر شديد أيضاً على اتجاهاته النفسية حيث يميل إلى الاعتمادية الطفلية السلبية ويسلم نفسه لمعالج يدَعي القدرة على امتلاك السر الأعظم من القرآن وتطويعه بشكل خفي لعلاج كل الأمراض ضارباً عرض الحائط بقانون الأسباب والمسببات الذي وضعه الله لحركة هذا الكون ولحياة البشر فيه من خلال وسائل نوعيه قائمة على المناهج العلمية الصحيحة. كل هذه الاعتبارات تجعلنا نأخذ موقفاً واعياً تجاه هذه الظاهرة التي تضع القرآن في غير موضعه وتختزل رسالته العظيمة في الهداية والإصلاح , وأيضاً تكرس لكل معاني التغييب الحضاري والتثاؤب التاريخي والاعتماد السلبي 0
• موقف الإسلام من التداوي بالعقاقير نفسية التأثير :
ما يزال الناس في بلادنا العربية والإسلامية متحفظين تجاه الطب النفسي ، والطبيبالنفسي ، والعقاقير النفسية ، تحفظًا يختلفُ اختلافا كبيرا عن تحفظهم تجاه أي من تخصصات الطب الأخرى أو عقاقير العلاج المستخدمة فيها بما في ذلك علاج ما لا علاج له ـ في أغلب الأحيان - كالأمراض الفيروسية أو الأورام الخبيثة... إلخ 0 على عكس معظم عقاقير الأمراض النفسية التي تعطي فائدةً لا تقبل الجدل في أغلب الأحيان 0 فأما التحفظ تجاه الطب النفسي فبسبب أمورٍ تتعلقُ بما يلزمُ المسلمَ بطلب العلاج من المرضالنفسي ، مثلما يلزمه بطلبه في حالة المرض العضوي ، وهي أمورٌ تتعلقُ بموقف الإسلام من الطب عامةً ثم بموقفه من الطب النفسي خاصةً ، ثم بموقفه من استخدام عقاقير العلاج النفسية التأثير 0
• موقف الإسلام من الطب ومن طلب العلم:
يعتبرُ حفظ الإنسان لنفسه جسدا وروحا ، من بين ما أوجب الإسلام على الإنسان الالتزام الحثيث به ، فجعل على المسلم أن يمد نفسه بوسائل الإبقاء على حياته من تناول للطعام والشراب وتوفير اللباس والمسكن ، ويَحْرُمُ على المسلم أن يمتنع عن هذه الضروريات إلى الحد الذي يهدد بقاء حياته ، كما أوجب الإسلام على الإنسان - إذا وجد نفسه مهددة - أن يدفع عن نفسه الهلاك بما في ذلك المرض الذي يصيب الجسد أو النفس - أو كلاهما معا كما نرى في الغالب مع مرضانا كأطباء ، ونراه دائما أبدًا إذا نحن أحسنا الرؤية - فرأينا مرض الجسد يؤثر في النفس ومرض النفس يؤثرُ في الجسد ، بحيث أن الفصل بين النفس والجسد غير ممكن واقعا ، وبحيث يصدق في علاقتهما قول سيد الخلق صلى الله عليه وسلم : { مَثَل المؤمنين في توادِّهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد، إذا اشتكى منه عضوٌ تداعى سائر الجسد بالسهر والحمى } 0 ولنلحظ هنا حين نتأمل كلمات الحديث الشريف، أنه بينما تصيب الحمى الجسد فإن السهر لا يفصل بينهما ، كذلك حرم الإسلام قتل النفس سواء قتل الإنسان نفسه أو قتله غيره قال الله تعالى : { وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً } النساء 0 بل بالغ الإسلام في تجريم قتل النفس فاعتبر قتل نفس واحدة: بمثابة قتل الناس جميعا، قال تعالى: { مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً} المائدة 0
وقال سيد الخلق عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم : ( إن لزوجك عليك حقا وإن لربك عليك حقا وإن لبدنك عليك حقا وإن لضيفك عليك حق فأعطى كل ذي حق حقه )0 وحينما رأى النبي صلى الله عليه وسلم أن من أصحابه من يغالي في ناحية من النواحي ، زجره، كما حدث لعبد الله بن عمرو بن العاص ، فقد كان يصوم ولا يفطر، ويقوم فلا ينام ، وترك امرأته وواجباته الزوجية 0 فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : (يا عبد الله إن لعينك عليك حقًا ، وإن لأهلك عليك حقًا ، وإن لزوجك عليك حقًا ، وإن لبدنك عليك حقًا ، فأعط كل ذي حق حقه) 0 وفي ضوء هذا نستطيعُ أن نفهمَ سببَ إعلاء المسلمين من شأن علم الطب، حتى أن داود الأنطاكي يقول في مقدمة كتابه ( التذكرة ) : ليس هناك علم من العلوم يستغنى عن علم الطب أصلا ، لأن اكتساب العلوم لا يتم إلا بسلامة البدن والحواس والعقل وهذا الرأي إن دل على شيء فإنما يدل على أن أطباء الإسلام كانوا واثقين بعلمهم ثقة لا حد لها ، مدركين لأهميته في حياة الإنسان ، وكان أطباء الإسلام إلى جانب ما تقدم حريصين كل الحرص على تأصيل أخلاقيات معنية استمدوها من الإسلام لعلم الطب وممارسته . ونجدُ الطبَّ الغربيَّ (الماديَّ الحديث) في المقابل ظل يتعاملُ مع الجسد البشري على أنهُ مجموعةٌ من الأعضاء المنفردة تتحكمُ فيها المادة كلا وجزءًا ، وهم أنفسهم قاموا بتهميش دور الحالة النفسية مغترين بما وضعوا أيديهم عليه من عقاقير خاصةً في بدايات القرن العشرين ، إلى أن بدأت الصيحات تتعالى في الخمسينات لتشدد على ضرورة اعتبار الإنسان وحدةً نفسيةً ماديةً اجتماعية ، وأن العوامل النفسية والاجتماعية مهمةٌ جدا حتى في حالة الأمراض الانتقالية أو المعدية وهي التي كان الغرور باكتشاف المضادات الحيوية يجعل الكثيرين يرونها مسألةً عضويةً مائة بالمائة ، أي أن الطب الغربي وصل في النصف الثاني من القرن العشرين إلى صحة ما كانَ يقولُ به الأطباء المسلمون لأنهم تعلموه من دينهم 0 والمسلم مطالبٌ بطلب العلم بوجهٍ عام ، وقد ورد في الحديث طلب العلم فريضة على كل مسلم) رواه ابن ماجة وغيره وهو حديث صحيح بمجموع طرقه 0 ومفهوم العلم في الإسلام يختلف عن مفهومه في أي ديانة فهو لا يقتصر على اللاهوت ، ومن الأدلة على أن العلم في الإسلام غير محدود بحد معين قول الرسول صلى الله عليه وسلم في رواية تأبير النخل المشهورة : ( أنتم أعلم بشئون دنياكم) فهذا يفتح الباب واسعا أمام العقل ليستنبط من أنواع العلوم ما لا حصر له ، ومنها علم الطب والتداوي ، وقد صرح أطباء المسلمين وفلاسفتهم بأن النصوص الدينية كانت وراء إقبالهم على تعلم الطب والنبوغ فيه ، وتأمل المعنى فيما يتوله الذهبي في الطب النبوي: "وقد تقدم قوله عليه السلام: "إن الله لم ينزل داء إلا وله دواء"، قلنا: إن ذلك يقتضي تحريك الهمم وحث العزائم على تعلم الطب"، خاصةً وأن الإنسان"مجبولٌ على صيانة نفسه" كما قال بعض أطباء المسلمين -وقرأته في الطب النبوي-، فإذا كان ذلك الإنسان سليم الفطرة فإنه لابد سيكافح من أجل صيانة نفسه، وبالتالي فإن الدين المناسب لمثل ذلك الإنسان لابد أن يكونَ معينا له على ذلك بل وآمرا له به كما فعل الإسلام بحق، فكلما كان المسلم ملتزما إذن، كلما كان التزامه بصيانة نفسه أكبر . ولما كان من الواضح أن انتهاجنا كأطباء نفسيين مسلمين لمنهج الغرب لم يحقق نجاحا يمس به المجتمع لأن المجتمع المسلم بطبيعته لا يستطيع إغفال العلاقة بين توافق الفرد مع دينه وربه وبين ما يحسهُ من أمن نفسي، فإن الأجدر بنا أن نتواصل مع جذورنا نحن لكي نستطيع التأثير في مجتمعاتنا بشكل يفيدُ ويثمر، والحقيقة أن اختلافاً جوهريًّا يوجدُ في تناول موضوع الصحة النفسية ما بين علماء وأطباء النفس الغربيين وبين العلماء والمفكرين المسلمين (السابقين)، فعلماء الغرب يرون أن أهمَّ مقوِّمات الصحة النفسية هي فقط النجاح في حياة الإنسان المادية والدنيوية وقدرته على تحمل مسئوليات الحياة ومواجهة ما يقابله من مشكلات، وتوافقه مع نفسه ومع غيره من الناس، ويغفلون ما غير ذلك إغفالاً تاما وأما علماء المسلمين وأطباؤهم فكانوا يرون أن أهم مقومات الصحة النفسية هي توافق الفرد مع ربه وتمسكه بعبادته وتقواه سبحانه وتعالى، ذلك أن الإسلام حينما جاء بالتوازن بين الحياة الروحية والحياة الجسدية والحياة العقلية . فالإنسان ـ كما يتصوره الإسلام ـ جسد وعقل وروح0 إلزام الشرع للمريض بطلب العلاج :
من الثابت تاريخيا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأمر أصحابه بعرض أنفسهم علي الحارث بن كلدة ، وكان الحارث طبيب العرب والعجم ، وفي الطب النبوي لابن القيم: يذكر عن النبي صلى الله عليه وسلم "أنه عاد سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه بمكة، فقال : ادعوا له طبيباً ، فدعي الحارث بن كلدة ، فنظر إليه ، فقال : ليس عليه بأس، فاتخذوا له فريقة ، وهي الحلبة مع تمر عجوة رطب يطبخان ، فيحساهما، ففعل ذلك، فبرئ" ، كما كان صلي الله عليه وسلم يسمح للنساء بالتطبيب ، وخدمة الجرحى (التمريض) وقد جعل صلي الله عليه وسلم سعد بن معاذ في خيمة لامرأة يقال لها رفيدة في مسجده كانت تداوى الجرحى ، وكذلك كانت أخت لها تسمى كعبة بنت سعيد الأسلمية تعالج الجرحى ، وقد روى عن أسامة بن شريك قال : جاء أعرابي فقال : يا رسول الله أنتداوى ؟ قال : ( نعم فإن الله لم ينزل داء إلا أنزل له شفاء علمه من علمه وجهله من جهله) 0 قالت الأعراب : يا رسول الله ألا نتداوى ؟ قال : ( نعم عباد الله تداووا ، فإن الله لم يضع داء إلا وضع له شفاء أو دواء إلا داء واحدًا ، قالوا: يا رسول الله وما هو قال :الهرم) 0 رواه ابن ماجه وأبو داود والترمذي وصححه ، وفي رواية للطيالسي عن أسامة بن شريك أيضًا عباد الله ، وضع الله الحرج إلا امرأ اقترض امرأ ظلما فذاك يحرج ويهلك ، عباد الله تداووا فإن الله تعالى لم يضع داء إلا وضع له دواء إلا داء واحدا: الهرم) وجاء في الصحيحين أنه صلى الله عليه وسلم قال : ( لكل داء دواء فإذا أصاب الداء برأ بإذن الله عز وجل ) رواه البخاري ومسلم 0 فعلى المريض أن يتخذ الأسباب الدنيوية للعلاج أن يلجأ إلى الله سبحانه ويدعوه ويطلب منه الشفاء ، ويقول الأزرقي : روى كذلك أن عمر بن الخطاب قال : أرسلوا إلى الطبيب ينظر جرحى فأرسلوا إليه 0
وبرغم ذلك هناك مشكلةٌ ما تزال حتى يومنا هذا تشغل بال المتدينين من كل دين سماوي ، مثل هل من حق الطبيب أن يتصدى للظواهر المرضية في مريضه باعتبارها أقدارا تصيبه والله وحده يقررُ مصيرها، وقد دار بحث دقيق بين علماء الإسلام حول الطب والتداوي (استعمال الدواء) من حيث موافقته أو معارضته لقضاء الله ، وبناءً على الخلفية السابقة من أمر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ، ذهب أطباء الإسلام إلى القول : بأن الطب والتداوي لا يعارضان قضاء الله ، كما أكدوا على أن الإسلام نفسه يدعو إلى الإيمان بالأسباب والمسببات ، ومن ينكر الأسباب فهو كافر ، حيث يقول الأزرقي في كتابه تسهيل المنافع : "وقد ثبت أن الله عز وجل وضع في أشياء خواص ، فمن أنكرها فهو كافر، ومن قال : لا فائدة في الطب فقد رد على الواضع والشارع ، فلا يلتفت إلى قوله ، وإنما يراد بالطب التسبب إلى دفع ضرر وإجلاب نفع" ويرد الأزرقي علي من قال إن التداوي خروج عن الرضا بقضاء الله قائلا إن من الرضا بقضاء الله التوصل إلى محبوباته بمباشرة ما جعله الله مسببا، فليس للعطشان أن لا يريد الماء زاعما الرضا بالعطش الذي قضى الله به". ومن الواضح أن العقيدة الإسلامية كانت واضحة في ذلك الموقف الحاسم من الطب ، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( من تعلم علماً مما يُبتغى به وجه الله تعالى ، لا يتعلّمه إلا لُيصيب عًرًضاً من الدنيا لم يجد عرف الجنّة يوم القيامة ) رواه أبو داود 0 فأي علمٍ أنبل من الطب ومداواة الناس يبتغى به وجه الله؟ وينسبُ -على سبيل المثال- إلى الإمام الشافعي قوله "لا أعلم علما بعد الحلال والحرام أنبل من الطب"، ومن المعروف أن فلاسفة المسلمين فصلوا في قضية الطب منذ بواكير الفلسفة الإسلامية، ويثبتُ التاريخ لنا كيف حاول الأكاديميون اللاهوتيون المسيحيون محاجاة ابن سينا وابن رشد في مذهبهما من عدم منافاة طلب العلاج والتداوي للتوكل على الله 0
يتفق المشتغلون بالتوجيه والإرشاد على أن المرشد الطلابي بحاجة كبيرة للتعرف على النظريات التي يقوم عليها التوجيه والإرشاد وذلك يعود لأهمية تطبيقها أثناء الممارسة المهنية للعمل الإرشادي حيث أن هذه النظريات تمثل خلاصة ما قام به الباحثون في مجال السلوك الإنساني والتي وضعت في شكل إطارات عامه تبين الأسباب المتوقعة للمشكلات التي يعاني منها المسترشد كما ترصد الطرق المختلفة لتعديل ذلك ا لسلوك وما يجب على المرشد القيام به لتحقيق ذلك الغرض .
مفهوم النظرية :
هي مجموعة متكاملة متناسقة من المعلومات التي يفترض من خلالها فهم و تفسير معظم الظواهر السلوكية, وتقوم على مسلمات و افتراضات علمية موضوعية. وعلى خلاصة جهد الباحثين في فهم السلوك البشري 0
دور النظرية في الإرشاد:
تلعب النظرية دورا هاما في الإرشاد ، فهي تمدنا بالتالي :
1ـ فهم ملائم للسلوك الإنساني .
2ـ فهم السلوك السوي و السلوك المضطرب و أسباب اضطرابه.
3ـ تمنحنا طرقا و أساليب لتعديل السلوك المضرب و علاجه .
خصائص النظرية الجيدة:
1ـ الوضوح : حيث تشمل عدة إجراءات تضمن وضوحها مثل التعريفات,عدم تناقض المسميات.
2ـ الشمولية: تغطي الظواهر السلوكية و لا تقتصر على الحالات الشاذة.
3ـ قابليتها للبحث و التحقق: يمكن التأكد من فروضها و مفاهيمها و صلاحيتها عبر الأيام.
4ـ القابلية للتطبيق و الممارسة: تساعد الممارسين على تطبيق أساليبها في تعديل السلوك.
5ـ تحقيق الفائدة العلمية: حيث تقدم خدمات تطبيقية واسعة.
1ـ النظرية الأولى : النظرية الإسلامية
العلاج النفسي في الإسلام :
غالبا ما تتمثل الصراعات النفسية في التناقض بين قوى الخير والشر، وبين الغرائز والمحرمات ، من ذلك الشعور بالذنب والخطأ الذي كثيرا ما يتسبب في القلق والفزع والعدوان واضطراب الطبع والسلوك . بيد أن أصول الشخصية الأساسية في البيئة الإسلامية لا تزال ترتكز على القيم الحضارية المنبثقة من تعاليم الإسلام لأن هذه القيم تبقى من العناصر الرئيسية الواقية من المرض النفسي والمخففة لوطأته عند حدوثه . وقد أكد الكثير من علماء الإسلام على مفعول تعاليم الدين بقصد ترضية النفس واطمئنانها بواسطة التوبة والاستبصار واكتساب الاتجاهات الجديدة الفاضلة ، وأن شخصية المسلم ترتكز على الإيمان بالقضاء والقدر والبر والتقوى وعلى مسئولية الاختيار وطلب العلم والصدق والتسامح والأمانة والتعاون والقناعة والصبر والاحتمال والقوة والصحة 000الخ 0
وكل هذه الخصال تشجع على إنماء الشخصية واكتمالها بقصد السعادة النفسية الشاملة . ومن هنا يتجلى مفعول العلاجات التقليدية في البيئة الإسلامية ، الأمر الذي يفرض على الأطباء المحدثين أن يأخذوا هذه الطرق بعين الاعتبار ويدرسونها كي تستفيد ممارستهم الخاصة بتعاليمها وبذلك يحصل التنسيق والتكامل المنشود 0 والصحة النفسية تهدف إلى تنمية الفرد وجعله قادرا على نشاط مثمر وربط علاقات سوية مع الغير مع التمتع بإرادة ثابتة وعقيدة مثلى ليعيش في سلام وسعادة مع نفسه وذويه والمجتمع بصفة عامة . وإن الصراعات الباطنية التي يخوضها المرء طيلة حياته من شأنها أن تتسبب في اضطرابات نفسية شديدة إن لم يقع حلها بصفة مرضية وأخطر الصراعات تتمثل في الأنانية المفرطة والرغبات الملحة لتحقيق الشهوات مهما كانت الطرق والحيل المستعملة لهذا الغرض. وقد أجمع الكثير من العلماء على أن الخطأ هو في الذنب والألم الذي يشعربه الإنسان نتيجة ما ارتكبه من أعمال سيئة وقذرة . وتعتبر هذه العقدة العنصر الأساسي لتكوين العصابات أي ( الأمراض العصبية ) ، باعتبار أن مظاهر سوء التوافق النفسي تمثل أمراض الضمير بل هي حيلة دفاعية للهروب من تأنيب الضمير . ومن أهم الأعراض النفسية المرضية : مشاعر القلق ، والحصر ، والشعور بالذنب ، والخطأ ، أو بالعكس ، العدوان ، والظلم ، والسلوك المضطرب ، والمنحرف الخارج عن الإقليم والمقاييس الاجتماعية 0 ومن هنا نفهم الروابط والفوارق التي تقوم بين القيم الدينية والتحاليل النفسية الفرودية مثلا حيث أن النظرية الفرويدية يمكن أن تؤدي إلى سيطرة الغرائز الجنسية في كل الحالات ، ولربما تشجع على ذلك في مفهومها السطحي الشائع بينما تحث القيم الدينية على التحكم في الدوافع والتغلب عليها بسيطرة النفس الفاضلة الضمير وهو الأنا الأعلى عند فرويد ونفهم إذن كيف لا يسعنا في مجتمعنا العربي الإسلامي وقد أثبتت ذلك تجربتنا الطويلة إلا أن نتماشى مع هذه القيم الدينية الأصيلة التي لا تزال قائمة في النفوس بشكل من الأشكال ، وتعالج عادة الفرد من الصراع الذي يتخبط فيه انطلاقا من هذه المقاييس 0 وكثيرا ما يكون المريض يفهم خطابنا هذا ولا يفهم كلاما آخر مثل الكلام الغامض المعقد الذي نستخرجه من بعض النظريات شبه العلمية الغربية المصدر والتي لا تنفك باقية يوما بعد يوم عرضة إلى الانتقاد والمراجعة في المجتمع الغربي نفسه 0 زد على ذلك كشرط تقني أساسي للتشخيص والعلاج ، ضرورة فهم المريض من الداخل والتماشي معه يعني مع اعتقاداته وقيمه وإجمالا مع قواعد شخصيته الأساسية وهو السبيل الأفضل لمعاينته الدقيقة ولتركيز تشخيص مرضه بصفة قويمة ثابتة. هذا وإن الدين الإسلامي كثيرا ما يكون وسيلة لتحقيق الإيمان والسلام النفسي وهو إيمان وأخلاق وعمل صالح وهو الطريق إلى سيطرة العقل وإلى المحبة والسبيل القويم إلى القناعة والارتياح والطمأنينة والسعادة والسلام 0 وقد كتب وحلل وألف الكثير من الأطباء والعلماء المسلمين في مجال السعادة النفسية ، وإن كل المذاهب الفلسفية الإسلامية التي تعرضت إلى فهم الروح وتحليل جوهرها وماهيتها قد أتت كما هو معلوم بتعاليم قيمة لتحقيق الاطمئنان للأفراد والجماعات، عبر الزمان والمكان 0 ولنذكر إجمالا هنا تعاليم الخلفاء الراشدين ورجال التصوف وأعلام الفلسفة والفقه والمنطق الإسلامي الذين أصبحت تحاليلهم قدوة للنهضة الفكرية بالغرب أمثال الكندي والفارابي والرازي وابن سينا والغزالي وابن رشد وابن النفيس وإسماعيل الجرجاني وابن رشد وابن العربي وابن الجزار ومحمد الصقلي وغيرهم 0
1ـ طريقة العلاج الديني :
يضع البعض ( العلاج الديني ) الذي يقوم على مبادئ روحية سماوية مقابل ( العلاجالنفسي الدنيوي ) الذي يرتكز على السعادة في دار الدنيا بكل جوانبها المادية والأدبية ويقصد بذلك طرق العلاج التي تقوم على أساليب ومفاهيم وضعها البشر ولو كانت نفسية المصدر والأهداف لكن الدين يوفر أحيانا الأمن الذي قد لا تستطيع أساليب علم النفس المعاصر أن توفره ، ومع ذلك ففي طرق العلاج النفسي الدنيوي نجد بعض أعلامه يؤمنون بأن الدين عامل هام في إعادة الطمأنينة إلى النفس 0 فقد أكد ( كارل يونج ) أهمية الدين وضرورة إعادة فرص الإيمان والرجاء لدى المريض ، وأكد ( ستيكل ) أهمية تدعيم الذات الأخلاقية على هذا الأساس 0 ومن ذلك يصبح العلاجالنفسي الديني أسلوب توجيه وإرشاد وتربية وتعليم 0 ويقوم على معرفة الفرد لنفسه حسب المبادئ الروحية والأخلاقية العقائدية 0 ويمكن أن يمارس العلاج الديني كل من المعالج النفسي والطبيب النفساني وكذلك المربي وحتى رجل الدين على شرط أن يكون هؤلاء على دراية بأمر المصاب ويقع إرشادهم وتطلب مشاركتهم في هذا المجال من طرف الطبيب النفساني الحديث ، وهذا الأمر يجري العمل به مثلا في عديد من المصحات النفسية التي تعالج بأوروبا ( محاولات الانتحار ) مثل : مصحة فيينا المختصة بحالات الطوارئ الانتحارية ، ذلك لأن العلاج النفسي الديني ككل العلاجات النفسية بمثابة عملية يشترك فيها المعالج والمريض معا ولنحلل تيسير العلاج الديني على أساس :
1ـ الاعتراف :
وهو يتضمن شكوى النفس طلبا للغفران ، وكثيرا ما يستعمل الفرد الوسائل الدفاعية اللاشعورية مثل : الإنكار ، والإسقاط ، والتحويل ، أو التبرير وغيرها ، كي يخفف التوتر الذي ربما ينتج عن الشعور بالذنب والخطأ ، وعلى المعالج أن يحلل ذلك بكل دراية في الوقت المناسب وبالصيغة المناسبة 0 لذا فاعتراف المريض يزيل مشاعر الخطيئة والإثم ويخفف من عذاب الضمير فيطهر النفس المضطربة ويعيد إليها طمأنينتها 0 ولذلك يجب على المعالج مساعدة المريض على الاعتراف بخطاياه وتفريغ ما بنفسه من مشاعر الإثم المهددة ، على أن يتقبل المعالج ذلك في حياد ، ويتبع الاعتراف الرجوع إلى الحق والفضيلة والتوازن النفسي السليم مع الذات 0
2ـ التوبة :
وهي تناشد المغفرة وتمثل أمل المخطئ الذي تحرر من ذنوبه فيشعر الفرد بعدها بالتفريغ النفسي والانفراج 0 والتوبة كما يقول الغزالي (في إحياء علوم الدين) لها أركان ثلاثة : علم وحال وفعل ، فالعلم : هو معرفة ضرر الذنب المخالف لأمر الله ، والحال : هو الشعور بالذنب ، والفعل : هو ترك الذنب والنزوع نحو فعل الخير 0 والمعروف أن حجة الإسلام الإمام الغزالي يعتبر من رواد مؤسسي علم النفس الإسلامي ويقول الله عز وجل: { قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم } 0 ويقول رسول الله عليه الصلاة والسلام : (التائب حبيب الرحمن والتائب من الذنب كمن لا ذنب له ) . ومن هنا نفهم مدى أهمية الالتجاء إلى هذه المفاهيم كي يعالج ( العصابي المسلم ) من صراعاته والمكتئب من يأسه وتذنيب ذاته وكذلك السيكوباتي من تكرار أعماله العدوانية الشنيعة وذنوبه المتكررة 0
3ـ الاستبصار :
ومعناه الوصول بالمريض إلى فهم أسباب شقائه ومشكلاته النفسية وإدراك الدوافع التي أدت به إلى حالته المضطربة وفهم ما بنفسه من خير وشر ، وتقبل المفاهيم الجديدة مستقبلا بصدر رحب ، ويعني هذا نمو الذات البصيرة . وقال تعالى في هذا الصدد : { بل الإنسان على نفسه بصيرة } . وهذه الطريقة المثلى كثيرا ما تستعمل في عديد من مظاهر العلاجات النفسية المعاصرة بما فيه التحليل النفسي الفرويدي أو طريقة كارل روجيرس 000الخ 0
4ـ اكتساب اتجاهات وقيم جديدة :
من خلال ذلك يتم تقبل الذات وتقبل الآخرين والقدرة على تحمل المسئولية وعلى تكوين علاقات اجتماعية مبنية على الثقة المتبادلة والقدرة على التضحية وخدمة الآخرين ، وكذلك اتخاذ أهداف واقعية وإيجابية والحياة مثل القدرة على الصمود والعمل المثمر والإنتاج 0 وهكذا تتم تنقية الضمير (أو الأنا الأعلى) كسلطة داخلية أو رقيب نفسي على السلوك ويتم تطهير النفس وإبعادها عن الرغبات المحرمة واللا أخلاقية واللا اجتماعية ويستقيم سلوك الإنسان بعد أن تتبع السيئات الحسنات فتمحوها وقال تعالى : { وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات ذلك ذكرى للذاكرين } وقال أيضا : { يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية، فادخلي في عبادي وادخلي جنتي } .
• استخدامات العلاج النفسي الديني :
هذا ويمكن اليوم حسب ما أكدته لنا التجارب استخدام العلاج النفسي الديني في البلاد العربية والإسلامية ، وبصفة خاصة والحالات التي يتضح أن أسبابها وأعراضها تتعلق بالسلوك الديني للمريض ، بالإضافة إلى الهذيانات الدينية نفسها بل في غالب الحالات فإن العلاج الديني يفيد كثيرا في نوبات القلق والوسواس والهستيريا وتوهم المرض أو داء المراق والخواف والرهاب والاضطرابات الانفعالية ، ومشكلات الزواج وكل الصراعات الفتاكة المبنية على التكالب عن ، ملذات دار الدنيا أو على الهرب في وضعية اليأس والانهيار النفسي ، وخاصة الإدمان على الكحول الذي يحرمه الدين وحالات الاكتئاب والتشاؤم والمسالك الانتحارية المحرمة أيضا بتاتا في القرآن والحديث ، وحتى الوضعية السيكوباتية التي هي مشهورة بشدة تأصلها وصعوبة علاجها 0
• قواعد التربية الدينية في الإسلام :
إن التربية بمعناها الواسع تشمل عادة صفة من صفات التربية الدينية لاسيما في بلادنا العربية والإسلامية وهي منبثقة من المحيط الأطلسي سواء من الأبوين أو من المدرسة ، ذلك أن تربية الشخص تتضمن تقويمه في حدود إطار أخلاقي للسلوك وإن القيم الروحية والأخلاقية المنبثقة من تعاليم الإسلام كثيرا ما تهدي الفرد إلى الاستقامة والسلوك السوي ولقد قيل " من يسلك بالاستقامة يسلك بالأمان " وفي كل الأحوال يبقى مشكل ، سلوك الإنسان مرتبطا بمكارم أخلاقه إن الأخلاق المستمدة من الدين تنظم سلوك الإنسان وتهديه إلى الصراط المستقيم وتحاسبه إن هو أخطأ أو انحرف. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق ) وقال على بن أبي طالب رضي الله عنه : " نعم الحسب الخلق الحسن " . وحسن الأخلاق يتماشى مع الاستقرار النفسيوترضية الضمير والكف عن السباق نحو شهوات الدنيا وما ينتج عن ذلك من حسد وحقد وصراع بين الأشخاص وفي نفسيه الفرد بذاته 0
• شخصية المسلم واطمئنان النفس :
إذا أردنا استعراض سمات شخصية المسلم كما حددها الدين لاستغرقنا في الحديث طويلا فلنكتف ببعض نماذج تستخلص من كلام الله عز وجل وحديث رسوله عليه الصلاة والسلام حول سمات شخصية المسلم :
1ـ الإيمان بالقدر والمكتوب : قال تعالى : ( قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا هو مولانا وعلى الله فليتوكل المؤمنون ) 0وهنا ينبغي أن يفسر هذا القول دوما بصفة إيجابية كحث على قبول المصائب بصدر رحب دون الالتجاء إلى مظاهر اليأس والوهن والانهيار أو دون الالتجاء إلى السلوك العدواني المعاكس أو التهجمات المفرطة التي لا يحمد عقباها ، ولا يعني ذلك الاستسلام بل العمل على أن نتعدى أمرنا ونقفز بعد ذلك إلى الأمام لنتغلب على الشدائد والمصائب 0
2ـ مسئولية الاختيار : قال تعالى : { بل الإنسان على نفسه بصيرة } ، وهنا تتجلى حرية الفرد في اختيار مواقفه وسلوكه بكل دراية وهو هدف عديد من العلاجات النفسية المعاصرة.
3ـ طلب العلم : قال الله تعالى : { فتعالى الله الملك الحق ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه وقل رب زدني علما } ، ويتضمن ذلك قابلية المؤمن للتوعية والإرشاد
4ـ الصدق : قال تعالى : { يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين } ، والصدق فضيلة هامة جدا يرتكز عليها اطمئنان النفس إلى حد بعيد ، ويقاس به مدى انهيارها إذا خلفت ذلك ، من ذلك أن بعض الأخصائيين في علم النفس الحديث قد اخترعوا ركائز لقياس مقدرة الفرد على الصدق والإخلاص ( استخبار الصدق لهنري باروخ ) 0
5ـ التسامح : قال الله تعالى : { ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه كأنه ولي حميم } ، والتسامح من الفضائل الهامة لاطمئنان النفس ونيل الارتياح 0
6ـ الأمانة : قال تعالي : { إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل إن الله نعما يعظكم به إن الله كان سميعا بصيرا } 0
7ـ الرحمة : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( الراحمون يرحمهم الرحمن ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء ) ، وهذه الخصال الحميدة لها وزن كبير في سلوك الأفراد الأسوياء والمرضى في آن واحد ، ولنذكر هنا بطاعة الوالدين والعناية بهما وبضرورة حسن معاملة الأولياء لأبنائهم ولذويهم على أسس المحبة والرحمة 0
8ـ التعاون : قال الله تعالى : { وتعاونوا على البر والتقوى } ، وقال أيضا : { إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم واتقوا الله لعلكم ترحمون } ، وقال أيضا : { والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويطيعون الله ورسوله أولئك سيرحمهم الله إن الله عزيز حكيم }، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه ) 0 وفي ذلك أعظم العبر وأسمى التعاليم للتوافق الأسري والاجتماعي الذي ترتكز عليه قواعد الصحة النفسية 0
9ـ القناعة : وهي من أفضل الخصال البشرية التي تنهي عن التناطح العنيف نحو تحقيق السعادة المادية التي لا حد لها ، والتشبع بقيم التنافس القاسي الذي لا رحمة فيه لأحد والذي يتصف به من سوء الحظ عديد من مظاهر المجتمعات العصرية المرتكزة على قاعدة الاستهلاك شرقا وغربا ، وقد ازدادت في هذه المجتمعات الأمراض النفسية في الكم والكيف كما هو معروف 0 أما القناعة فهي تعالج الاضطرابات النفسية الناجمة عن الحقد والغيرة وكراهية الغير المنافس ، ومن جهة أخرى السلوك المنحرف الناتج عن الإحباط وما ينتج عنه من سوء التوافق الفردي مع الذات ومع الغير ، وإن كان المسلم يحمد الله فليس لغرض غير غرض السعادة الروحية والاطمئنان وقبول حالته بصدر رحب مع الملاحظ أن ذلك لا يعني الاستسلام والفشل والركود في الذل والخسارة والخصاصة ، بل إن القيم الأخلاقية الإسلامية تشجع كما هو معروف من جهة أخرى على الإقدام والإنتاج والابتكار لكن بدون أن تستعمل في ذلك وسائل القهر والعنف والحيل الظالمة والرذائل المكروهة بصفة عامة 0
10ـ الصبر : قال تعالى : { يا أيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر والصلاة إن الله مع الصابرين } ، وقال تعالى : { وبشر الصابرين } 0 ويا لها من عبرة فائقة في هذا الصدد حيث تتكاثر الأمثلة في مجال الطب النفسي التي تبرهن على أهمية الصبر والتحكم في النفس على هذا الأساس 0
11ـ العفة : قال تعالى : { وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى } 0 ومن هنا يتجنب الفرد الشر والرذائل على مختلف أنواعها 0
12ـ القوة والصحة : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف ) ، وقال أيضا عليه الصلاة والسلام : ( إن الله لم يضع داء إلا وضع له دواء ) 0 وفي ذلك تشجيع على تقوية النفس وتسييرها نحو الإقدام والشجاعة ومزيد من الفاعلية والتفاؤل للخير مستقبلا وكذلك بقصد تجنب كل بوادر اليأس والانهيار هذا وينبغي للطبيب النفسي المسلم المعاصر أن يفهم كل هذه التعاليم والقيم في مظاهرها الإيجابية الفاضلة وفي غاية من الاتزان والاعتدال ، ليتمكن من تحقيق التوافق النفسي والرقي البشري للفرد والجماعات في كل المجالات . ومن هنا نستخلص في آخر الأمر قوة مفعول العلاجات التقليدية النفسية التي تستعمل إلى يومنا هذا في كل الأقطار العربية الإسلامية في زوايا الأولياء الصالحين ، ومن طرف المعالجين التقليديين غير الأطباء الذين يبرهنون أحيانا على مهارة مدهشة وعلى تحكم دقيق في أساليب علاجاتهم الروحانية هذه بينما يعجز بعض الأطباء المحدثين 0 على أن هؤلاء المعالجين يتصفون أحيانا بالشعوذة والتدجيل من سوء الحظ وعلى الطبيب المعاصر الماهر أن يغربل ما بين الفضائل والرذائل وما بين اللب والقشور ، ويستخلص من كل هذه الطرق العبرة والمفاهيم الصحيحة ليركز المريض على أساس إيجابي انطلاقا من اعتقاداته الأصلية وفي فائدته أولا وبالذات 0
• الوقاية الدينية من المرض النفسي :
ومن ذلك كله يتجلى أن الإيمان كثيرا ما يكون العقيدة المثلي والسلوك الصالح لاستقرار الأنا واطمئنان النفس ، لكن السلوك الذي يخرج عن الدين أو بالعكس الذي يأخذ شكل العبادة المفرطة يصل أحيانا أمرا خطيرا قد يؤدي إلى الشذوذ والانحراف وإلى مشتبكات نفسية معقدة ومن ذلك ينبغي أن تتضمن الوقاية من المرض النفسي في البيئة العربية الإسلامية الاهتمام بالتربية الأخلاقية، وبتركيز القيم الدينية كدعامة للسلوك السوي وكشرط أساسي للتوافق النفسي والاجتماعي . والمعروف، أن الدين الإسلامي يوحي بالاهتمام بالحياة الدنيا والآخرة، وبإحداث توازن بين الملذات والماديات والأخلاقيات والروحانيات كي يتم التوافق النفسي . ولقد قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه " اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدا واعمل لآخرتك كأنك تموت غدا ". ولنختم كلامنا بقول الشيخ الرئيس ابن سينا الذي أشار إلى أن أنفع البر هي الصدقة وأزكى السر هو الاحتمال، وخير العمل ما صدر عن خالص نية، وخير النية ما صدر عن الحكمة والفضائل وعن معرفة الله أول الأوائل 0
• القرآن والهدوء النفسي :
قال تعالى : { الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون }الأنعام 0
الحياة كنوز ونفائس أعظمها الإيمان بالله ، وطريقها منارة القرآن الكريم فالإيمان إشعاعه أمان ، والأمان يبعث الأمل ، والأمل يثمر السكينة ، والسكينة نبع للسعادة ، والسعادة حصادها أمن وهدوء نفسي ، فلا سعادة إنسان بلا سكينة نفس ، ولا سكينة نفس بلا اطمئنان القلب 0 مما لا شك فيه أن كلاً منا يبحث عن السعادة ويسعى إليها ، فهي أمل كل إنسان ومنشود كل بشر والتي بها يتحقق له الأمن النفسي 0 والسعادة التـي نعنيها هي السعادة الروحية الكاملة التـي تبعث الأمل والرضا ، وتثمر السكينة والاطمئنان ، وتحقق الأمن النفسي والروحي للإنسان فيحيا سعيداً هانئاً آمناً مطمئناً 0 وليس الأمن النفسي بالمطلب الهين فبواعث القلق والخوف والضيق ودواعي التردد والارتياب والشك تصاحب الإنسان منذ أن يولد وحتى يواريه التراب0 ولقد كانت قاعدة الإسلام التي يقوم عليها كل بنائه هي حماية الإنسان من الخوف والفزع والاضطراب وكل ما يحد حريته وإنسانيته والحرص على حقوقه المشروعة في الأمن والسكينة والطمأنينة وليس هذا بالمطلب الهين فكيف يحقق الإسلام للمسلمين الأمن والسكينة والطمأنينة. إن الإسلام يقيم صرحه الشامخ على عقيدة أن الإيمان مصدر الأمان، إذن فالإقبال على طريق الله هو الموصل إلى السكينة والطمأنينة والأمن ، ولذلك فإن الإيمان الحق هو السير في طريق الله للوصول إلى حب الله والفوز بالقرب منه تعالى. ولكن كيف نصل إلى هذا الإيمان الحقيقي لكي تتحقق السعادة والسكينة والطمأنينة التي ينشدها ويسعى إليها الإنسان لينعم بالأمن النفسي. إننا نستطيع أن نصل إلى هذا الإيمان بنور الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، ونور الله هنا هو القرآن الكريم الذي نستدل به على الطريق السليم ونأخذ منه دستور حياتنا . . وننعم بنوره الذي ينير القلب والوجدان والنفس والروح والعقل جميعاً . أليس ذلك طريقاً واضحاً ووحيداً لنصل إلى نعمة الأمن النفسي ؟ لقد عُنـي القرآن الكريم بالنفس الإنسانية عناية شاملة . . عناية تمنح الإنسان معرفة صحيحة عن النفس وقاية وعلاجاً دون أن ينال ذلك من وحدة الكيان الإنساني ، وهذا وجه الإعجاز والروعة في عناية القرآن الكريم بالنفس الإنسانية ، وترجع هذه العناية إلى أن الإنسان هو المقصود بالهداية والإرشاد والتوجيه والإصلاح. فلقد أوضح لنا القرآن الكريم في الكثير من آياته الكريمة أهمية الإيمان للإنسان وما يحدثه هذا الإيمان من بث الشعور بالأمن والطمأنينة في كيان الإنسان وثمرات هذا الإيمان هو تحقيق سكينة النفس وأمنها وطمأنينتها. والإنسان المؤمن يسير في طريق الله آمناً مطمئناً ، لأن إيمانه الصادق يمده دائماً بالأمل والرجاء في عون الله ورعايته وحمايته ، وهو يشعر على الدوام بأن الله عز وجل معه في كل لحظة ، ونجد أن هذا الإنسان المؤمن يتمسك بكتاب الله لاجئاً إليه دائماً ، فهو بالنسبة له خير مرشد بمدى أثر القرآن الكريم في تحقيق الاستقرار النفسي له. فمهما قابله من مشاكل وواجهه من محن فإن كتاب الله وكلماته المشرقة بأنوار الهدى كفيلة بأن تزيل ما في نفسه من وساوس ، وما في جسده من آلام وأوجاع ، ويتبدل خوفه إلى أمن وسلام ، وشقاؤه إلى سعادة وهناء كما يتبدل الظلام الذي كان يراه إلى نور يشرق على النفس ، ويشرح الصدر، ويبهج الوجدان . . فهل هناك نعمة أكبر من هذه النعمة التي إن دلت على شيء فإنما تدل على حب الله وحنانه الكبير وعطائه الكريم لعبده المؤمن. إن كتاب الله يوجه الإنسان إلى الطريق السليم ، ويرشده إلى السلوك السوي الذي يجب أن يقتدى به . . .يرسم له طريق الحياة التـي يحياها فيسعد في دنياه ويطمئن على آخرته. إنه يرشده إلى تحقيق الأمن النفسي والسعادة الروحية التي لا تقابلها أي سعادة أخرى ولو ملك كنوز الدنيا وما فيها. إنه يحقق له السكينة والاطمئنان ، فلا يجعله يخشى شيئاً في هذه الحياة فهو يعلم أنه لا يمكن أن يصيبه شر أو أذى إلا بمشيئة الله تعالى ، كما يعلم أن رزقه بيد الله وأنه سبحانه وتعالى قد قسم الأرزاق بين الناس وقدَّرها ، كما أنه لا يخاف الموت بل إنه حقيقة واقعة لا مفر منها ، كما أنه يعلم أنه ضيف في هذه الدنيا مهما طال عمره أو قصر، فهو بلا شك سينتقل إلى العالم الآخر، وهو يعمل في هذه الدنيا على هذا الأساس ، كما أنه لا يخاف مصائب الدهر ويؤمن إيماناً قوياً بأن الله يبتليه دائماً في الخير والشر، ولولا لطف الله سبحانه لهلك هلاكاً شديداً. إنه يجيب الإنسان على كل ما يفكر فيه ، فهو يمنحه الإجابة الشافية والمعرفة الوافية ، لكل أمر من أمور دينه ودنياه وآخرته. إن كتاب الله يحقق للإنسان السعادة لأنه يسير في طريقه لا يخشى شيئاً إلا الله، صابراً حامداً شاكراً ذاكراً لله على الدوام ، شاعراً بنعمة الله عليه . . يحس بآثار حنانه ودلائل حبه... فكل هذا يبث في نفسه طاقة روحية هائلة تصقله وتهذبه وتقومه وتجعله يشعر بالسعادة والهناء ، وبأنه قويٌ بالله . . . سعيدٌ بحب الله ، فينعم الله عز وجل عليه بالنور والحنان ، ويفيض عليه بالأمن والأمان ، فيمنحه السكينة النفسية والطمأنينة القلبية. مما سبق يتضح لنا أن للقرآن الكريم أثر عظيم في تحقيق الأمن النفسي ، ولن تتحقق السعادة الحقيقية للإنسان إلا في شعوره بالأمن والأمان ، ولن يحس بالأمن إلا بنور الله الذي أنار سبحانه به الأرض كلها ، وأضاء به الوجود كله . . . بدايته ونهايته ، وهذا النور هو القرآن الكريم. ويؤكد لنا القرآن الكريم بأنه لن يتحقق للإنسان الطمأنينة والأمان إلا بذكره لله عز وجل ، قال تعالى : (الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب) [الرعد:28] إذن علينا أن نتمسك بكتاب الله ونقتدي به ، ونتدبر في آياته البينات ، ونتأمل في كلماته التي لا تنفد أبداً ، قال تعالى : (قل لو كان البحر مداداً لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ولو جئنا بمثله مدداً) [الكهف:109] حتى نتحلى بالإيمان الكبير في هذه الرحلة الروحية مع آيات الله فنتزود بما جاء به القرآن الكريم من خلق عظيم ، وأدب حميد ، وسلوك فريد ، ومعرفة شاملة بحقيقة النفس الإنسانية كما أرادها الله عز وجل أن تكون ، وترتقي حيث الحب والخير والصفاء والنورانية ، فننعم بالسلام الروحي الممدود ، والاطمئنان القلبي المشهود والأمن النفسي المنشود 0
• رأي حول العلاج بالقرآن :
شاع في السنوات الأخيرة موضوع العلاج بالقرآن واختلط فيه الحابل بالنابل ، ومارسه أناس بسطاء ذوي نوايا طيبة غالباً وعلم بسيط, ومارسه أيضاً أناس مستغلون تستروا وراء قدسية القرآن ومارسوا خلفها كل الموبقات, وحدثت التباسات كثيرة كما هو حادث في كثير من أمور حياتنا منها أن القرآن شفاء للنفوس وبالتالي لا نحتاج لأي علاجات للأمراض النفسية غيره , ومنها أن المؤمنين لا يمرضون نفسياً وبالتالي فالمرضى النفسيين من هذا المنظور أشخاص ضعاف الإيمان وضعاف الإرادة. ومنها أن كل الاضطرابات النفسية وربما العضوية أيضاً تحدث نتيجة المس الشيطاني وتأثيرات السحر والحسد. والغريب أن هذه الأفكار والالتباسات لم تتسلل إلى عقول العامة والبسطاء فقط وإنما امتدت إلى عقول طبقات المتعلمين والمثقفين وربما العلماء , وأخطر ما في الأمر هو تستر كل هذا خلف الستار الديني المقدس وتلونه بالصفة الدينية ذات المكانة العالية لدى جموع الناس خاصة في مجتمعاتنا العربية والإسلامية , وذلك يجعل من يواجه هذا الركام أشبه بمن يمشي في أرض مليئة بالشوك والألغام. ويصاحب ذلك محاولة استدعاء كل الوسائل العلاجية القديمة التي استخدمت في عهد النبي صلى الله عليه وسلم أو في عهد الصحابة وتطبيقها في موضعها أو في غير موضعها بشكل تعميمي ، وإعطاء هذه الممارسات العلاجية صفة القداسة خاصة حين تنسب إلى الرسول صلى الله عليه وسلم حتى ولو كان النسب ضعيف أو إلى أحد صحابته الكرام , وينظر إلى هذه الوسائل العلاجية على أنها جامعة مانعة وبالتالي فهي تغني عن أي تدخلات طبية حديثة فالحجامة تغني عن كل الممارسات التشخيصية والعلاجية , وحبة البركة تجب كل الأدوية المرصوصة على أرفف الصيدليات , وقراءة القرآن على المرضى النفسيين تمحو كل الاجتهادات البشرية في العلوم النفسية والطب النفسي. والمتأمل للتاريخ الإسلامي لن يجد هذا الإلحاح وهذا الانتشار وربما الهوس حول هذه الأشياء في عهد النبوة أو في عهد الازدهار الحضاري الإسلامي , فلم نسمع أن العرب توافدوا جماعات إلى المدينة للتداوي من أمراضهم على أيدي الرسول صلى الله عليه وسلم أو على أيدي صحابته الكرام , ولم نسمع أن سيدنا عمر كان الناس يقفون على بابه بالآلاف ليقرأ عليهم كي يشفوا من أمراضهم , ولم نقرأ أن سيدنا أبي بكر رضي الله عنه جلس في بيته يستقبل آلاف الناس ليرقيهم ويوزع عليهم كوباً من الماء قد تفل فيه من ريقه ليشربوه وكوباً من الزيت قد تفل فيه أيضاً ليدَهنوا به. وكل ما حدث من ممارسات علاجية كانت اجتهادات في هذا العصر ولم تأخذ الشكل الجامع المانع , لأن الرسول صلى الله عليه وسلم نفسه كان يستخدم وسائل متنوعة في التداوي مثل عسل النحل , وحبة البركة , والحجامة وعصابة الرأس والرقية , ولم يدَع أن هذه الوسائل تلغي ما عداها أو ترقى على ما عداها وإنما كان يرسل المرضى إلى رفيدة الأنصارية تمرضهم أو إلى الحارث بن كلدة ليطببهم , ولو كانت الحجامة أو حبة البركة لها تأثير جامع مانع في كل الأمراض لما لجأ الرسول صلى الله عليه وسلم إلى هذه الوسائل المتعددة بلا حدود ولو كانت قراءة القرآن وحدها على المرضى تشفي كل الأمراض لما لجأ الرسول صلى الله عليه وسلم إلى بقية الوسائل. والمتأمل للوسائل العلاجية المتعددة التي كان يتداوى بها الرسول صلى الله عليه وسلم أو يداوي بها يجد أنها تشمل ما هو مادي وما هو روحي , لذلك فالادعاء بأن الوسائل الروحية فقط ومنها قراءة القرآن تشفي كل الأمراض البدنية والنفسية يصبح مجاوزاً للحقيقة ومجاوزاً للمنهج النبوي نفسه الذي يفتح الباب واسعاً لكل وسائل التداوي المعروفة في ذلك العصر والتي ستعرف في بقية العصور. إذن فما يحدث الآن هو نوع من التفكير الاختزالي الاعتمادي السحري المستسهل والذي يكتفي بما قيل بديلاً لإعمال الفكر والبحث والتنقيب والتجربة والاجتهاد . فنحن في مجتمعاتنا العربية والإسلامية نريد أن نعيش متطفلين على تراثنا الديني وعلى تراثنا الثقافي حتى لا نتعب أنفسنا في دراسة المشكلات الحياتية ومحاولة إيجاد حلول لها وهذا ينطبق على الأمراض وغيرها. والعجيب أن الأطباء المسلمين العظام مثل ابن سينا وابن النفيس والرازي وغيرهم لم يسلكوا هذا المسلك الاتكالي السحري الاستسهالي, فلم نجدهم يبالغون في استدعاء النصوص الدينية لحل المشكلات الصحية التي واجهوها في مرضاهم , وإنما قاموا بالتشريح والتجريب والتحليل والتركيب , وكانوا من الملاحظين والوَصافين العظام في التاريخ للعديد من المظاهر المرضية , ولم نجدهم يبالغون في مسائل الإعجاز الطبي للقرآن وهي حقيقة أو يبالغون في تعميم وسائل علاجية بعينها ويعطوها قداسة دينية , وإنما كانت عيونهم فاحصة ونظراتهم ممتدة (بلا نهاية وعقولهم تعمل كما أرادها الله أن تعمل , ولمْ يتستروا خلف لافتات دينية , ولم يكرسوا قيم السلبية والاعتمادية كما يفعل المعالجون بالقرآن الآن حين يطلبون من كل المرضى أن يستلقوا على ظهورهم ولا يفعلوا أي شيء فالمعالج سوف يفعل كل شيء بالنيابة عنهم لأن المعالج هنا يأخذ دور الأب المقدس والمريض هنا يأخذ دور الطفل الغرير الجاهل, وبالتالي فالمعالج والمريض يبتعدون عن الموقف الموضوعي الراشد في التعامل مع المرض ومع أنفسهم. وهذا الخلل الفكري الذي يقسم المجتمع إلى آباء مقدسين وملهمين وأبناء أطفال جاهلين وسفهاء واعتمادين ينتقل من الموقف العلاجي السائد في مجتمعنا إلى مواقف حياتيه أكثر اتساعاً. ونحن حين نتعامل مع القرآن على أنه مجرد مسكن موضعي أو وسيلة راحة فإننا نختزل قيمته العظيمة ونتغاضى عن رسالته العظيمة في تنظيم حياتنا الفردية وحياتنا الجماعية بما يحقق التوزان والتناغم مع الكون الأوسع ليس في الدنيا فقط وإنما في الدنيا والآخرة ، والقرآن يعطينا طمأنينة وراحة على مستويات متعددة نذكر منها :
1ـ المستوى الأول ـ الطمأنينة لمجرد سماعه حتى دون فهم وتدبر , فالتراكيب اللفظية والإيقاعات الصوتية المعجزة تجعلنا في حالة هدوء واسترخاء 0
2ـ المستوى الثاني ــ الإحساس بوجود الله : { الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ } الرعد : 28 0 ذلك الإحساس الذي يجعلنا نشعر أننا لسنا وحدنا في هذه الحياة وأن هناك قوة عظيمة وهائلة تساندنا وتحمينا وترعانا , وأن حياتنا البسيطة المحدودة ليست نهاية الكون وإنما هناك امتدادات وآفاق هائلة في المكان والزمان وبهذا ننتقل من ضيق الأفق البشري إلى اتساع ولا نهائية ملك الإله الأعظم وقدرته 0 وفي هذا تخفيف لحدة الكرب الذي نحياه بسبب ضغوط الحياة المختلفة واضطراب توافقنا مع الناس والأشياء 0
3ـ المستوى الثالث ــ التنظيم النفسي الفردي الذي يحقق التوازن بين كافة الاحتياجات والرغبات والدوافع فلا تطغى حاجة على أخرى ولا تلغي رغبة قيمة ولا ينفرد دافع متضخم بتحريك الشخصية لحسابه 0 ذلك التوازن النفسي الداخلي يتحقق بتبني المفاهيم القرآنية الصحيحة على المستوى الداخلي 0 قال تعالى : { وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارا } الإسراء 0
4ـ المستوى الرابع ــ التنظيم الجماعي على المستويات السياسية والاقتصادية والاجتماعية ذلك التنظيم الذي يحقق الشورى والعدل والتكافل الاجتماعي فيخفض بذلك من نزعات الغضب والقلق والحقد والكراهية , أي يحقق الطمأنينة الجماعية 0
5ـ المستوى الخامس ــ التناغم الكوني , فالإنسان على مستواه الفردي والجماعي هو جزء من كون واسع خلقه الله وسيره على ناموس دقيق , فإذا استوعب الإنسان القرآن وسار على منهجه الصحيح فإنه يتناغم في حركته مع الكون الأوسع 0
6ـ المستوى السادس ــ السعي نحو الله وهو قمة الطمأنينة : { يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ () ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً () فَادْخُلِي فِي عِبَادِي () وَادْخُلِي جَنَّتِي }الفجر 0 لأن النفس البشرية مفطورة على الشوق إلى لقاء الله خالقها ومبدعها لذلك فكلما اتجهت إليه شعرت بالأمان والطمأنينة وكلما ابتعدت عنه نتيجة تشوه الفطرة شعرت بالضيق والقلق والخوف ومن يعرض عن ذكر الله نجعل صدره ضيقاًَ حرجاً كأنما يصعّد في السماء أو تهوي به الريح في مكان سحيق 0 وهذه المستويات من الطمأنينة ليست عامة لكل الناس , فالقرآن يؤثر في النفوس وفي الجماعات حسب استقبالها له : { وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَاراً } الإسراء:82 0
وفي سورة فصلت بيان لاختلاف تأثير القرآن باختلاف المتلقي وطريقة تلقيه قال تعالى : { قل هو للذين آمنوا هدىً وشفاء والذين لا يؤمنون في آذانهم وقرُُ وهو عليهم عمىً } فصلت 44 0 وفي سورة الإسراء يقول تعالى : { وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ حِجَاباً مَّسْتُوراً () وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْراً وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْاْ عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُوراً } الإسراء 0 إذن فالقرآن يصبح شفاءً لمن يؤمن به ولمن يفقهه ولمن يعمل به , ومن هنا فمن لا يؤمن به لا يستفيد منه بل هو يزداد خسارة عند سماعه لأنه ينفر منه ويصبح ذلك حجة عليه , ومن لا يفقه القرآن ولا يعمل به ستتوقف استفادته عند الحدود الدنيا 0 والمريضالنفسي الذي يعاني من الفصام أو الاكتئاب أو أي مرض نفسي أخر يكون لديه اضطراب في كيمياء المخ ربما يؤدي إلى خلل في استقباله للقرآن فكأنه لا يسمعه أو يسمعه ولا يفهمه , أو يفهمه بشكل مرضي متأثراً بوساوسه القهرية أو ضلالاته أو هلاوسه المرضية , ولذلك نجد بعض المرضى النفسيين يتألمون أو ينفرون أو يعرضون حين يسمعون القرآن , وهم ليسوا مؤاخذين على ذلك لأنهم في أوضاع غير سوية تؤثر في إدراكهم واستقبالهم: فالمريض الاكتئابي مثلاً قد ينفر من أعز أبنائه ويضيق بالأشياء التي كان يعشقها ولذلك حين نرى ضيقه بسماع القرآن أو قراءته لا نحكم عليه بكراهية القرآن أو النفور منه لأنه يعيش ظروفاً استثنائية ترفع عنه الحرج في الكثير من الأشياء. والمريض الذهاني لا يفهم ما يسمع أو يفهم بطريقة مشوهه نتيجة اضطراب إدراكه وتفكيره . والمعالجون بالقرآن لا يراعون هذه الخصوصيات وهذه الفروق في العملية الإدراكية وفي عمليات الاستقبال للقرآن فهم يفرضونه قهراً على كل المرضى الذين يقصدونهم دون مراعاة لظروفهم النفسية وحالاتهم الوجدانية واستعداداتهم للتلقي فضلاً عن الفهم والعمل. وهناك احتمالات تقديس المعالج بالقرآن والارتكان إلى بركاته وكراماته وقدراته الهائلة في دفع المرض ودفع القوى الخفية كالجن والسحر والحسد , وفي هذا خطر شديد على الاعتقاد الديني للشخص حيث يتوجه إلى بشر ضعيف مثله طالباً الخلاص على يديه وخطر شديد أيضاً على اتجاهاته النفسية حيث يميل إلى الاعتمادية الطفلية السلبية ويسلم نفسه لمعالج يدَعي القدرة على امتلاك السر الأعظم من القرآن وتطويعه بشكل خفي لعلاج كل الأمراض ضارباً عرض الحائط بقانون الأسباب والمسببات الذي وضعه الله لحركة هذا الكون ولحياة البشر فيه من خلال وسائل نوعيه قائمة على المناهج العلمية الصحيحة. كل هذه الاعتبارات تجعلنا نأخذ موقفاً واعياً تجاه هذه الظاهرة التي تضع القرآن في غير موضعه وتختزل رسالته العظيمة في الهداية والإصلاح , وأيضاً تكرس لكل معاني التغييب الحضاري والتثاؤب التاريخي والاعتماد السلبي 0
• موقف الإسلام من التداوي بالعقاقير نفسية التأثير :
ما يزال الناس في بلادنا العربية والإسلامية متحفظين تجاه الطب النفسي ، والطبيبالنفسي ، والعقاقير النفسية ، تحفظًا يختلفُ اختلافا كبيرا عن تحفظهم تجاه أي من تخصصات الطب الأخرى أو عقاقير العلاج المستخدمة فيها بما في ذلك علاج ما لا علاج له ـ في أغلب الأحيان - كالأمراض الفيروسية أو الأورام الخبيثة... إلخ 0 على عكس معظم عقاقير الأمراض النفسية التي تعطي فائدةً لا تقبل الجدل في أغلب الأحيان 0 فأما التحفظ تجاه الطب النفسي فبسبب أمورٍ تتعلقُ بما يلزمُ المسلمَ بطلب العلاج من المرضالنفسي ، مثلما يلزمه بطلبه في حالة المرض العضوي ، وهي أمورٌ تتعلقُ بموقف الإسلام من الطب عامةً ثم بموقفه من الطب النفسي خاصةً ، ثم بموقفه من استخدام عقاقير العلاج النفسية التأثير 0
• موقف الإسلام من الطب ومن طلب العلم:
يعتبرُ حفظ الإنسان لنفسه جسدا وروحا ، من بين ما أوجب الإسلام على الإنسان الالتزام الحثيث به ، فجعل على المسلم أن يمد نفسه بوسائل الإبقاء على حياته من تناول للطعام والشراب وتوفير اللباس والمسكن ، ويَحْرُمُ على المسلم أن يمتنع عن هذه الضروريات إلى الحد الذي يهدد بقاء حياته ، كما أوجب الإسلام على الإنسان - إذا وجد نفسه مهددة - أن يدفع عن نفسه الهلاك بما في ذلك المرض الذي يصيب الجسد أو النفس - أو كلاهما معا كما نرى في الغالب مع مرضانا كأطباء ، ونراه دائما أبدًا إذا نحن أحسنا الرؤية - فرأينا مرض الجسد يؤثر في النفس ومرض النفس يؤثرُ في الجسد ، بحيث أن الفصل بين النفس والجسد غير ممكن واقعا ، وبحيث يصدق في علاقتهما قول سيد الخلق صلى الله عليه وسلم : { مَثَل المؤمنين في توادِّهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد، إذا اشتكى منه عضوٌ تداعى سائر الجسد بالسهر والحمى } 0 ولنلحظ هنا حين نتأمل كلمات الحديث الشريف، أنه بينما تصيب الحمى الجسد فإن السهر لا يفصل بينهما ، كذلك حرم الإسلام قتل النفس سواء قتل الإنسان نفسه أو قتله غيره قال الله تعالى : { وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً } النساء 0 بل بالغ الإسلام في تجريم قتل النفس فاعتبر قتل نفس واحدة: بمثابة قتل الناس جميعا، قال تعالى: { مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً} المائدة 0
وقال سيد الخلق عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم : ( إن لزوجك عليك حقا وإن لربك عليك حقا وإن لبدنك عليك حقا وإن لضيفك عليك حق فأعطى كل ذي حق حقه )0 وحينما رأى النبي صلى الله عليه وسلم أن من أصحابه من يغالي في ناحية من النواحي ، زجره، كما حدث لعبد الله بن عمرو بن العاص ، فقد كان يصوم ولا يفطر، ويقوم فلا ينام ، وترك امرأته وواجباته الزوجية 0 فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : (يا عبد الله إن لعينك عليك حقًا ، وإن لأهلك عليك حقًا ، وإن لزوجك عليك حقًا ، وإن لبدنك عليك حقًا ، فأعط كل ذي حق حقه) 0 وفي ضوء هذا نستطيعُ أن نفهمَ سببَ إعلاء المسلمين من شأن علم الطب، حتى أن داود الأنطاكي يقول في مقدمة كتابه ( التذكرة ) : ليس هناك علم من العلوم يستغنى عن علم الطب أصلا ، لأن اكتساب العلوم لا يتم إلا بسلامة البدن والحواس والعقل وهذا الرأي إن دل على شيء فإنما يدل على أن أطباء الإسلام كانوا واثقين بعلمهم ثقة لا حد لها ، مدركين لأهميته في حياة الإنسان ، وكان أطباء الإسلام إلى جانب ما تقدم حريصين كل الحرص على تأصيل أخلاقيات معنية استمدوها من الإسلام لعلم الطب وممارسته . ونجدُ الطبَّ الغربيَّ (الماديَّ الحديث) في المقابل ظل يتعاملُ مع الجسد البشري على أنهُ مجموعةٌ من الأعضاء المنفردة تتحكمُ فيها المادة كلا وجزءًا ، وهم أنفسهم قاموا بتهميش دور الحالة النفسية مغترين بما وضعوا أيديهم عليه من عقاقير خاصةً في بدايات القرن العشرين ، إلى أن بدأت الصيحات تتعالى في الخمسينات لتشدد على ضرورة اعتبار الإنسان وحدةً نفسيةً ماديةً اجتماعية ، وأن العوامل النفسية والاجتماعية مهمةٌ جدا حتى في حالة الأمراض الانتقالية أو المعدية وهي التي كان الغرور باكتشاف المضادات الحيوية يجعل الكثيرين يرونها مسألةً عضويةً مائة بالمائة ، أي أن الطب الغربي وصل في النصف الثاني من القرن العشرين إلى صحة ما كانَ يقولُ به الأطباء المسلمون لأنهم تعلموه من دينهم 0 والمسلم مطالبٌ بطلب العلم بوجهٍ عام ، وقد ورد في الحديث طلب العلم فريضة على كل مسلم) رواه ابن ماجة وغيره وهو حديث صحيح بمجموع طرقه 0 ومفهوم العلم في الإسلام يختلف عن مفهومه في أي ديانة فهو لا يقتصر على اللاهوت ، ومن الأدلة على أن العلم في الإسلام غير محدود بحد معين قول الرسول صلى الله عليه وسلم في رواية تأبير النخل المشهورة : ( أنتم أعلم بشئون دنياكم) فهذا يفتح الباب واسعا أمام العقل ليستنبط من أنواع العلوم ما لا حصر له ، ومنها علم الطب والتداوي ، وقد صرح أطباء المسلمين وفلاسفتهم بأن النصوص الدينية كانت وراء إقبالهم على تعلم الطب والنبوغ فيه ، وتأمل المعنى فيما يتوله الذهبي في الطب النبوي: "وقد تقدم قوله عليه السلام: "إن الله لم ينزل داء إلا وله دواء"، قلنا: إن ذلك يقتضي تحريك الهمم وحث العزائم على تعلم الطب"، خاصةً وأن الإنسان"مجبولٌ على صيانة نفسه" كما قال بعض أطباء المسلمين -وقرأته في الطب النبوي-، فإذا كان ذلك الإنسان سليم الفطرة فإنه لابد سيكافح من أجل صيانة نفسه، وبالتالي فإن الدين المناسب لمثل ذلك الإنسان لابد أن يكونَ معينا له على ذلك بل وآمرا له به كما فعل الإسلام بحق، فكلما كان المسلم ملتزما إذن، كلما كان التزامه بصيانة نفسه أكبر . ولما كان من الواضح أن انتهاجنا كأطباء نفسيين مسلمين لمنهج الغرب لم يحقق نجاحا يمس به المجتمع لأن المجتمع المسلم بطبيعته لا يستطيع إغفال العلاقة بين توافق الفرد مع دينه وربه وبين ما يحسهُ من أمن نفسي، فإن الأجدر بنا أن نتواصل مع جذورنا نحن لكي نستطيع التأثير في مجتمعاتنا بشكل يفيدُ ويثمر، والحقيقة أن اختلافاً جوهريًّا يوجدُ في تناول موضوع الصحة النفسية ما بين علماء وأطباء النفس الغربيين وبين العلماء والمفكرين المسلمين (السابقين)، فعلماء الغرب يرون أن أهمَّ مقوِّمات الصحة النفسية هي فقط النجاح في حياة الإنسان المادية والدنيوية وقدرته على تحمل مسئوليات الحياة ومواجهة ما يقابله من مشكلات، وتوافقه مع نفسه ومع غيره من الناس، ويغفلون ما غير ذلك إغفالاً تاما وأما علماء المسلمين وأطباؤهم فكانوا يرون أن أهم مقومات الصحة النفسية هي توافق الفرد مع ربه وتمسكه بعبادته وتقواه سبحانه وتعالى، ذلك أن الإسلام حينما جاء بالتوازن بين الحياة الروحية والحياة الجسدية والحياة العقلية . فالإنسان ـ كما يتصوره الإسلام ـ جسد وعقل وروح0 إلزام الشرع للمريض بطلب العلاج :
من الثابت تاريخيا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأمر أصحابه بعرض أنفسهم علي الحارث بن كلدة ، وكان الحارث طبيب العرب والعجم ، وفي الطب النبوي لابن القيم: يذكر عن النبي صلى الله عليه وسلم "أنه عاد سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه بمكة، فقال : ادعوا له طبيباً ، فدعي الحارث بن كلدة ، فنظر إليه ، فقال : ليس عليه بأس، فاتخذوا له فريقة ، وهي الحلبة مع تمر عجوة رطب يطبخان ، فيحساهما، ففعل ذلك، فبرئ" ، كما كان صلي الله عليه وسلم يسمح للنساء بالتطبيب ، وخدمة الجرحى (التمريض) وقد جعل صلي الله عليه وسلم سعد بن معاذ في خيمة لامرأة يقال لها رفيدة في مسجده كانت تداوى الجرحى ، وكذلك كانت أخت لها تسمى كعبة بنت سعيد الأسلمية تعالج الجرحى ، وقد روى عن أسامة بن شريك قال : جاء أعرابي فقال : يا رسول الله أنتداوى ؟ قال : ( نعم فإن الله لم ينزل داء إلا أنزل له شفاء علمه من علمه وجهله من جهله) 0 قالت الأعراب : يا رسول الله ألا نتداوى ؟ قال : ( نعم عباد الله تداووا ، فإن الله لم يضع داء إلا وضع له شفاء أو دواء إلا داء واحدًا ، قالوا: يا رسول الله وما هو قال :الهرم) 0 رواه ابن ماجه وأبو داود والترمذي وصححه ، وفي رواية للطيالسي عن أسامة بن شريك أيضًا عباد الله ، وضع الله الحرج إلا امرأ اقترض امرأ ظلما فذاك يحرج ويهلك ، عباد الله تداووا فإن الله تعالى لم يضع داء إلا وضع له دواء إلا داء واحدا: الهرم) وجاء في الصحيحين أنه صلى الله عليه وسلم قال : ( لكل داء دواء فإذا أصاب الداء برأ بإذن الله عز وجل ) رواه البخاري ومسلم 0 فعلى المريض أن يتخذ الأسباب الدنيوية للعلاج أن يلجأ إلى الله سبحانه ويدعوه ويطلب منه الشفاء ، ويقول الأزرقي : روى كذلك أن عمر بن الخطاب قال : أرسلوا إلى الطبيب ينظر جرحى فأرسلوا إليه 0
وبرغم ذلك هناك مشكلةٌ ما تزال حتى يومنا هذا تشغل بال المتدينين من كل دين سماوي ، مثل هل من حق الطبيب أن يتصدى للظواهر المرضية في مريضه باعتبارها أقدارا تصيبه والله وحده يقررُ مصيرها، وقد دار بحث دقيق بين علماء الإسلام حول الطب والتداوي (استعمال الدواء) من حيث موافقته أو معارضته لقضاء الله ، وبناءً على الخلفية السابقة من أمر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ، ذهب أطباء الإسلام إلى القول : بأن الطب والتداوي لا يعارضان قضاء الله ، كما أكدوا على أن الإسلام نفسه يدعو إلى الإيمان بالأسباب والمسببات ، ومن ينكر الأسباب فهو كافر ، حيث يقول الأزرقي في كتابه تسهيل المنافع : "وقد ثبت أن الله عز وجل وضع في أشياء خواص ، فمن أنكرها فهو كافر، ومن قال : لا فائدة في الطب فقد رد على الواضع والشارع ، فلا يلتفت إلى قوله ، وإنما يراد بالطب التسبب إلى دفع ضرر وإجلاب نفع" ويرد الأزرقي علي من قال إن التداوي خروج عن الرضا بقضاء الله قائلا إن من الرضا بقضاء الله التوصل إلى محبوباته بمباشرة ما جعله الله مسببا، فليس للعطشان أن لا يريد الماء زاعما الرضا بالعطش الذي قضى الله به". ومن الواضح أن العقيدة الإسلامية كانت واضحة في ذلك الموقف الحاسم من الطب ، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( من تعلم علماً مما يُبتغى به وجه الله تعالى ، لا يتعلّمه إلا لُيصيب عًرًضاً من الدنيا لم يجد عرف الجنّة يوم القيامة ) رواه أبو داود 0 فأي علمٍ أنبل من الطب ومداواة الناس يبتغى به وجه الله؟ وينسبُ -على سبيل المثال- إلى الإمام الشافعي قوله "لا أعلم علما بعد الحلال والحرام أنبل من الطب"، ومن المعروف أن فلاسفة المسلمين فصلوا في قضية الطب منذ بواكير الفلسفة الإسلامية، ويثبتُ التاريخ لنا كيف حاول الأكاديميون اللاهوتيون المسيحيون محاجاة ابن سينا وابن رشد في مذهبهما من عدم منافاة طلب العلاج والتداوي للتوكل على الله 0